للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

زال الاستعمار مرزوقًا بهذا النوع؛ فالرجل شريف أولًا، وعريق في الشهرة ثانيًا، وطرقي ثالثًا، وعالم رابعًا، وكل واحدة من هذه فتنة لصاحبها بنفسه وللناس به، فكيف بهن إذا اجتمعن؟ وكيف بهن إذا كان اجتماعُهنّ في غير موفّق؟ والرَّجُل بارع يستخدم كل واحدة من هذه في ميدانها الخاص، ويستخدمها جميعًا في الميدان العام: يستخدم العلم في الشهرة، والطرقية في الفتنة، فإذا حزب الأمر اتخذ من أحدهما طليعة، ومن الآخر جيشًا، ومن الشهرة أو الشرف ردءًا؛ ولكن أغلب النزعات عليه، النزعة الطرقية لأنها أكثر فائدة، وأجدى عائدة، وأقرب سبيل، في باب التضليل، ناهيك بدعوى لا يحتاج صاحبها إلى إقامة دليل.

...

كان بلاءُ هذا الرجل محصورًا في محيط، ومقصورًا على قطر، وكان إخواننا في المغرب يعالجون منه الداء العضال، وكنا نعدّ أنفسنا آثمين في السكوت عنه، وفي القعود عن نصرة إخواننا في دفع هذا البلاء الأزرق، فلما تنبّهت عقولهم لكيده، وتفتّحت عيونهم لمكره، وتهاوت عليه كواكب الرجم من كل جانب، فبطل سحره، وقصّرت رُقاه عن الاستنزال، وضلّ سعيه، وقلّ رعيه، انقلب استعمارًا محضًا قائمًا بذاته، وهاج حقده على الأحرار والسلفيين فترصّد أذاهم في الأنفس والأموال والمصالح، وأصبح كالعقرب، لا تلدغ إلا من يتحرك ...

ولكن السوأة التي لا توارى، والزلّة التي تضيق عنها المغفرة، والعظيمة التي يستحي الشيطان أن يوسوس بها، والشنعاء التي لا يقدم عليها إلا من بلغ رتبة الاجتهاد المطلق في علم الشر، هي اجتراؤه في فورة الاستعمار الأخيرة على أعلى رمز تتمثّل فيه أماني الوطن، وأمنع كنف يلوذ به السلفيّون الأبرار، والوطنيون الأحرار.

إن الخطايا قد تحيط بصاحبها فيقتل نفسه مثلًا، ولكن ما صدّقنا أن الحال ينتهي به إلى قتل أمّة إلا هذه المرّة، وإن الزلل ليرسخ إلى أن يصير خلقًا وعادة، ولكن ما عَهِدنا أنه يفضي بصاحبه إلى هذه الدركة التي لا تُبلَغ إلا بخذلان من الله، وما كنا نتصور أنّ شرّ شرّير يتّضع قدره إلى هذا الحدّ، أو يتّسع صدره لحمل هذا الوسام، وسبحان من يزيد في الخَلق ما يشاء.

وكأن الرجل أخذ فيما أخذ عن الاستعمار طريقة التوسّع، وكأنه أصغر المغرب- على سعته- أن يكون مجالًا لألاعيبه ومكايده، فجاوز في هذه المرّة الحدود، وتخطّى الأخدود، واندفع إلى الجزائر وتونس ليبثّ فيهما سمومه، ويتخذ منهما ملعبًا جديدًا لرواياته التي منها

<<  <  ج: ص:  >  >>