للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

من سنن العرب أنهم يجعلون الاسم سمة للطفولة، والكنية عنوانًا على الرجولة. لذلك كانوا لا يكتنون إلا بنتاج الأصلاب وثمرات الأرحام من بنين وبنات، لأنها الامتداد الطبيعي لتاريخ الحياة بهم، ولا يرضون بهذه الكُنى والألقاب الرخوة إلا لعبيدهم، وما راجت هذه الكُنى والألقاب المهلهلة بين المسلمين إلا يوم تراخت العرى الشادّة لمجتمعهم، فراج فيهم التخنّث في الشمائل، والتأنّث في الطباع، والارتخاء في العزائم، والنفاق في الدين؛ ويوم نسِي المسلمون أنفسهم فأضاعوا الأعمال التي يتمجّد بها الرجال، وأخذوا بالسفاسف التي يتلهّى بها الأطفال، وفاتتهم العظمة الحقيقية فالتمَسوها في الأسماء والكُنى والألقاب؛ ولقد كان العرب صخورًا وجنادل يوم كان من أسمائهم صخر وجندلة، وكانوا غصصًا وسمومًا يوم كان فيهم مرّة وحنظلة؛ وكانوا أشواكًا وأحساكًا يوم كان فيهم قتادة وعوسجة. فانظر ما هم اليوم. وانظر أيّ أثر تتركه الأسماء في المسمّيات. واعتبر ذلك في كلمة (سيدي) وأنها ما راجت بيننا وشاعت فينا إلا يوم أضعنا السيادة، وأفلتت من أيدينا القيادة. ولماذا لم تشِع في المسلمين يوم كانوا سادة الدنيا على الحقيقة؛ ولو قالها قائل لعمر لهاجت شرّته، ولبادرت بالجواب درّته.

كُني المعرّي وهو صغير بأبي العلاء، ولو تزوّج كالناس وولد له لسمّى أكبر أولاده العلاء؛ وهو اسم عربي فخم تعرف منه كتب السير أمثال العلاء بن الحضرمي، ولكن المعرّي لمّا عقل وأدرك سخافة القصد من كنيته قال هازئًا: "كُنيتُ وأنا وليد بالعلاء فكأن علاءً مات، وبقيت العلامات"؛ وأين إسعاد عبد الحي من علاء المعري؟

...

عرف الناس وعرفنا عرفان اليقين وعلمنا حتى ما نسائل عالمًا، أن هذا الرجل ما زال منذ كان الاستعمار في المغرب- لا كانا- آلةً صمّاءَ في يده، يديره كما شاء، ويريده على ما شاء. يحرّكه للفتنة فيتحرّك، ويدعوه إلى تفريق الصفوف فيستجيب، ويندبه إلى التضريب والتخريب فيجده أطوع من بنانه، ويريد منه أن يكون حمّى تُنهك، فيكون طاعونًا يُهلك؛ وأن يكون له لسانًا، فيكون لسانًا وأذنًا وعينًا ويدًا ورجلًا ومقراضًا للقطع، وفأسًا للقلع، ومعولًا للصدع، وما يشاء الاستعمار إخماد حركة، إلا كانت على يديه البركة، وما يشاء التشغيب على العاملين للصلاح، والمطالبين بالإصلاح، إلا رماهم منه بالداهية النكراء والصيلم الصلعاء؛ وما يعجزه الاضطلاع بعبء، أو الاطلاع على خبء، إلا وجد فيه البغية والضالة؛ وما يشاء التشكيك في رأي جميع، أو التشتيت لشمل مجموع، إلا وجد فيه المشكّك المحكّك، والخادم الهادم؛ وقد تهيّأتْ فيه أدوات الفتنة كلها حتى كأنه أُعدّ لذلك إعدادًا خاصًا. وكأنه "مصنوع بالتوصية"، وكأنما هو رزق مهيّأ مهنأ للاستعمار، وما

<<  <  ج: ص:  >  >>