للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

السيرة وممن جرى على صراطها من السلف، وعبد الحي محدّث بمعنى آخر، فهو "راوية" بكل ما لهذه الكلمة من معنى. تتصل أسانيده بالجن والحن ورتن الهندي (٤) وبكل من هبّ ودبّ. وفيه من صفات المحدّثين أنه جاب الآفاق، ولقي الرجال، واستوعب ما عندهم من الإجازات بالروايات، ثم غلبت عليه نزعة التجديد فأتى من صفات المحدَثين (بالتخفيف) بكل عجيبة، فهو محدّث محدِث في آن واحد؛ وهمّه وهمّ أمثاله من مجانين الرواية حفظ الأسانيد، وتحصيل الإجازات، ومكاتبة علماء الهند والسند للاستجازة، وأن يرحل أحدهم فيلقى رجلًا من أهل الرواية في مثل فواق الحالب، فيقول له: أجزتُك بكل مروياتي ومؤلفاتي إلى آخر (الكليشي) (٥)؛ فإذا عجز عن الرحلة كتب مستجيزًا فيأتيه علم الحديث بل علوم الدين والدنيا كلها في بطاقة ... أهذا هو العلم؟ لا والله. وإنما هو شيء اسمه جنون الرواية.

ولقد أصاب كاتب هذه السطور مسٌّ من هذا الجنون في أيام الحداثة، ولم أتبيّن منشأه في نفسي إلا بعد أن عافاني الله منه وتاب عليّ، ومنشأُه هو الإدلال بقوّة الحافظة، وكان من آثار ذلك المرض أنني فُتنت بحفظ أنساب العرب، فكان لا يُرضيني عن نفسي إلا أن أحفظ أنساب مضر وربيعة بجماهرها ومجامعها، وأن أنسب جماهر حمير وأخواتها، وأن أعرف كل ما أثر عن دغفل في أنساب قريش، وما اختلف فيه الواقدي ومحمد بن السائب الكلبي؛ ثم فُتنت بحفظ الأسانيد، وكدت ألتقي بعبد الحي في مستشفى هذا الصنف من المجانين بالرواية، لولا أن الله سلّم، ولولا أن الفطرة ألهمتني: أن العلم ما فُهم وهُضم، لا ما رُوي وطُوي.

زرت يومًا الشيخ أحمد البرزنجي- رحمه الله- في داره بالمدينة المنوّرة وهو ضرير، وقد نُمي إليه شيء من حفظي ولزومي لدور الكتب، فقال لي بعد خوض في الحديث: أجزتُك بكل مروياتي من مقروء ومسموع بشرطه ... الخ. فألقى في روعي ما جرى على لساني وقلت له: إنك لم تعطني علمًا بهذه الجمل، وأحر أن لا يكون لي ولا لك أجر، لأنك لم تتعب في التلقين وأنا لم أتعب في التلقّي؛ فتبسّم ضاحكًا من قولي ولم يُنكر، وكان ذلك بدء شفائي من هذا المرض، وإن بقيت في النفس منه عقابيل، تَهيج كلما طاف بي طائف العُجْب والتعاظم الفارغ إلى أن تناسيته متعمّدًا، ثم كان الفضل لمصائب الزمان في نسيان البقية الباقية منه؛ وإذا أسفت على شيء من ذلك الآن فعلى تناسيّ لأيام العرب، لأنها تاريخ، وعلى نسياني أشعار العرب، لأنها أدب.


٤) رتن الهندي شيخ دجّال ظهر على رأس المائة السادسة للهجرة وادّعى أنه صحابي وأنه يروي عن النبي مباشرة وأنه حضر زفاف فاطمة الزهراء، وقد روى عنه جماعة من المحدثين المصغين له وأنكر أمره ودعواه جمهور أعلام المحدثين كالحافظ الذهبي، والحافظ ابن حجر، وأثبت الذهبي أنه دجال كذاب.
٥) الكليشي: كلمة فرنسية معناها الشريط.

<<  <  ج: ص:  >  >>