للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وحضرت بعد ذلك طائفةً من دروس هذا الشيخ في صحيح البخاري على قلّتها وتقطّعها؛ وأشهد أني كنت أسمع منه علمًا وتحقيقًا؛ فقلت له يومًا: الآن أعطيتني أشياء وأحرِ بنا أن نوجَر معًا، أنت وأنا؛ فتبسّم مبتهجًا وقال لي: يا بنيّ، هذه الدراية وتلك الرواية. فقلت له: إن بين الدراية والعلم نسبًا قريبًا في الدلالة، تُرادفه أو تقف دونه؛ فما نسبة الرواية إلى العلم؟ وقطع الحديث صوت المؤذّن وقال لي: بعد الصلاة حدّثني بحديثك عن نسبة الرواية إلى العلم، فقلت له ما معناه: إن ثمرة الرواية كانت في تصحيح الأصول وضبط المتون وتصحيح الأسماء، فلما ضُبطت الأصول وأُمن التصحيف في الأسماء خفّ وزن الرواية وسقطت قيمتها، وقلت له: إن قيمة الحفظ- بعد ذلك الضبط- نزلت إلى قريب من قيمة الرواية، وقد كانت صنعة الحافظ شاقةً يوم كان الاختلاف في المتون، فكيف بها بعد أن تشعّب الخلاف في ألفاظ البخاري في السند الواحد بين أبي ذرّ الهروي، والأصيلي، وكريمة، والمستملي، والكشميهي، وتلك الطائفة، وهل قال حدثني أو حدّثنا أو كتاب أو باب؛ إن هذا لتطويل ما فيه من طائل.

ولا أراه علمًا بل هو عائق عن العلم، وقلت له: إن عمل الحافظ اليونيني على جلالة قدره في الجمع بين هذه الروايات ضرب في حديد بارد، لا أستثني منه إلا عمل ابن مالك، وإن ترجيح ابن مالك لإعراب لفظة لأدلّ على الصحة في اللفظ النبوي من تصحيح الرواية، وقد يكون الراوي أعجميًّا لا يقيم للإعراب وزنًا، فلماذا لا نعمد إلى تقوية الملكة العربية في نفوسنا، وتقويم المنطق العربي في ألسنتنا، ثم نجعل من ذلك موازين لتصحيح الرواية؛ على أن التوسّع في الرواية أفضى بنا إلى الزهد في الدراية، وقلت له: إنك لو وقفت على حلق المحدّثين بهذا الحرم، محمد بن جعفر الكتاني ومحمد الخضر الشنقيطي وغيرهما لسمعتَ رواية وسردًا، لا دراية ودرسًا، وإن أحدهم ليقرأ العشرين والثلاثين ورقة من الكتاب في الدولة الواحدة (٦). فأين العلم؟ وقلت له: إن مَن قَبْلنا تنبّهوا إلى أن دولة الرواية دالت بضبط الأصول وشهرتها فاقتصروا على الأوائل، يعنون الأحاديث الأولى من الأمهات وصاروا يكتفون بسماعها أو قراءتها في الإجازات، وما اكتفاء القدماء بالمناولة والوجادة إلا من هذا الباب.

قلت له هذا وأكثر من هذا، وكانت معارف وجهه تدلّ على الموافقة ولكنه لم ينطق بشيء، وأنا أعلم أن سبب سكوته هو مخالفة ما سمع لما ألف- رحمه الله.

ولقيت يومًا الشيخ يوسف النبهاني- رحمه الله- بباب من أبواب الحرم فسلّمت عليه فقال لي: سمعت آنفًا درسك في الشمائل، وأعجبني إنحازك باللوم على مؤلّفي السيَر في اعتنائهم بالشمائل النبوية البدنية، وتقصيرهم في الفضائل الروحية، وقد أجزتُك بكل مؤلّفاتي


٦) في الدولة الواحدة: في المَرَّة الواحدة.

<<  <  ج: ص:  >  >>