للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأنهم وفوا له ميتًا كما وَفَوْا له حيًّا. واعتزُّوا باسمه بعد مماته، كما كان يعتزّ بهم في حياته. فقد كان- رحمه الله- على جرأته وبديهته وبيانه وشجاعته- ربما تُدركه الفترة في الرأي في المواقف الحرجة فيلتفت فيرى إخوانه إلى جنبه فيندفع كأنما مسّته كهرباء، وكأنه الأتِيُّ المنهمر، فلا يبقي ولا يذر.

...

ومن غرائب هذه العصابة التي كان ابن باديس شارة شرفها، وطغرى عزّها، أن الشيطان لم يجد منفذًا يدخل منه إلى أخوّتهم فيفسدها، أو إلى علائقهم فيفصمها، أو إلى محبتهم بعضهم لبعض فينفث فيها الدخل، فعاشوا ما عاشوا متآخين كأمتن ما يكون التآخي، متحابين كأقوى ما تكون المحبة؛ ولقد كانوا مشتركين في أعمال عظيمة، معرّضين لعواقب وخيمة. ومن شأن ما يكون كذلك أن تختلف فيه وجوه الرأي وتتشعّب مسالكه، فيكثر فيها اللجاج المفضي إلى الضغينة، والانتصار للرأي المفضي إلى الخلاف، خصوصًا إذا اشتجرت الآراء في مزلقة الاستعمار التي يرصدها لنا؛ فوالذي روحي بيده ما كنا نجتمع في المواقف الخطيرة إلا كنفس واحدة، وما كنا نفترق- وإن اختلف الرأي- إلا كنفس واحدة. وإني لا أجد لفظًا يؤدّي هذه الحالة فينا إلا لفظة "إخوان الصفاء". فلقد- والله- كنا إخوان صفاء، وما زلنا إخوان صفاء، وسنبقى إخوان صفاء، حتى نجتمع عند الله راضين مرضيين إن شاء الله.

إن لهذه الحالة فينا علّة وثمرة: أما العفة فهي أن اجتماعنا كان لله ولنصر دين الله ولتأدية حق الله في عباده، دأبنا في ذلك التعاون على الخير، والاستباق إلى الخير، فلا مجال للمنافسة وحظ النفس. وأما الثمرة فهي هذا النجاح الباهر الذي نلقاه في كل أعمالنا للأمّة، في تطهير العقول، وفي تصحيح العقائد، وفي استجابة داعي القرآن، وفي تمكين سلطان السنّة، وفي صدق التوجه إلى العلم، وفي تشييد المدارس، وفي كثرة الإقبال عليها والبذل لها، وفي كل معالجة بيننا وبين الأمّة.

إن هذا من صنع الله لا مما تصوغه الأهواء النفسية الخبيثة، وما جمعته يد الله لا تفرّقه يد الشيطان.

...

ما زلت آسَى على شيء كلّما ذكرته، وأجد له في نفسي حرارةً ومضضًا، وهو أن تستأثر الجزائر وحدها بتلك المجموعة الباديسية من فكر ثاقب، ورأي أصيل، وعلم غزير، ولسان

<<  <  ج: ص:  >  >>