لو مات المُنصف بالأغواط (١)، لطافت الجزائر بجثمانه عدة أشواط، ولذهبت فيه مذهب العرب في "ذات أنواط"، ولغسلته بالعبرات المسفوحة، وكفّنته بألفاف القلوب، ودفنته في مستقرّ العقيدة والواجب من نفوسها.
ولو مات "بتَنَس" لتاهت فخرًا على الثغور، وباهت بيوم موته أيامها في غابرات العصور، ومحت بهذه المنقبة جميع ما وسمها به الشعراء من شين، ووصموها به من نقص.
ولو مات بأية بقعة من أرض الجزائر لكانت هي تونس نضرة واخضرارًا، ولاكْتسبت الجزائر بجميع أقطارها شرفًا ممن مات ميتة الشرف فيها، ولقبست معاني عالية من الفداء والتضحية بعُد عهدُها، ولفغمتها نفحة ساطعة من عزّ الإمارة حُرمتها الأنوف الشمّ من أبنائها منذ أيام عبد القادر، ولتسمَّعت نغمةً ساحرة عطلت آذانها منها من عهد عهيد.
إي والله، لو مات المنصف في الجزائر لمات في وطنه، وبين أهله، وفي أمة وفية متعطشّة للعزّ والسيادة، مستشرفة إلى حيث تنقطع علائق الطموح، لا يقل تقديرها للعظماء أمثال الفقيد عن تقدير أختها تونس لهم، ولا يقصر فهمها لمعاني العظمة في الرجال عن فهم أختها تونس لها، ولكنه مات بـ"بو"، في دار غير داره ووطن غير وطنه وناس غير ناسه، لم يستنشق مع حشرجة الموت نفسًا من أنفاس وطنه العزيز، الذي لقي الأذى في سبيله، إلى أن مات في سبيله، ولم يكتحل عند إغماضة الموت بمنظر من تلك المناظر التي كانت هوى قلبه، وشغل خواطره، وصبابة نفسه، ولم يتجرّع مع غصة الموت نطفة من ذلك الماء الذي كان يحمي حوضَه، وبُحرّم على المكدرين خوضه.
وما زالت الموارد للحتوف موارد، وما زالت الدنايا تُحلي المنايا! وما زالت الأوطان محتاجةً إلى هذا النوع السامي من الهمم والعزائم، وإلى هذا الطراز العالي من الرجال، وإلى هذا النوع اللطيف من أنواع الموت! وإلى هذه الدماء الزكية التي تثعب حمراء كالحرية، نقيّة كعقيدة الحق، تجري فتكتسحُ ما في نفوس الأمم من خور وفسولة.
إن موت العظماء حياة لأممهم، فإن كانت في الغربة زادت جلالًا، فإن كانت نتيجة للظلم زادت جمالًا، فإن كانت في سبيل الوطن كانت جلالًا وجمالًا، فإن صحبها سلب العز والملك كانت حلية وكمالًا، وكل ذلك اجتمع في موت المنصف.
مات نابليون غريبًا في جزيرة القديسة "هيلانة"، ونابليون ممن زادوا في تاريخ فرنسا
١) الأغواط واحة جميلة في الجنوب الجزائري، اختارتها فرنسا منفى للمنصف، ثم نقلته منها إلى مدينة "تنس" الواقعة على شاطئ البحر غربي مدينة الجزائر، ثم نقلته إلى قرية "بو" بالجنوب الغربي لفرنسا.