للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

صحائف بيضاء، وفي مجدها الحربي أساطين رفيعة، فما كانت موتته الغريبة ثلمة في فرنسا، لأنه مات وفرنسا بيد الفرنسيين.

ومات عبد الحميد أسيرًا في سجنه- وعبد الحميد أكثر أسماء الخلفاء سيرورةً على الأفواه- فما بكت عليه سماء ولا أرض، لأنه مات وتركيا بيد الأتراك.

ومات غيرهما من الملوك والعظماء في غربة وظلم، فكان من ورائهم ما يخفّف الفجيعة فيهم، ويلأم ببعض العزاء ما تصدع بموتهم.

ولكن ... ولكن موت المنصف في قرية نائية من قرى فرنسا- غريبًا عن وطنه وأمّته، مظلومًا في عرشه وملكه، مسلوب التاج، مخفور الذمام- مصيبة يزيد في معناها الشنيع معنى، وهو: أنه مات وتونس ليست للتونسيين!! وأنه مات وتونس ليست طليقة، وهي بالانطلاق خليقة!

...

عزاء للوطن المفجوع فيك يا منصف، وسلوى للقلوب المكلومة بموتك- وما أكثرها- يا منصف! وجزاء تلقاه في هذه الدنيا طيبَ ذكر، وعند ربّك ثمين ذخر، وهيهات أن تجزيك الجوازي من هذه الأمة التي نهجت لها نهج الكرامة، وشرعت لها سنن التضحية، ولقّنتها هذا الدرس السامي من الثبات والإباء والشمم، وعلّمتها كيف تموت الأسود جوعًا وظمأً، ولا تطعم الأذى، ولا ترد القذى.

...

جهد المقلّ يا منصف! ونظار حتى يعاود النشاط هذا القلم، وينحسر الركود عن هذه القريحة، وتنجلي غمرة الأسى، فيتوافى القلم والقريحة على تجلية العبر، من سيرة ليست كالسير.

<<  <  ج: ص:  >  >>