للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومحمد خطاب من الأغنياء الذين يظهرون آثار نعمة الله عليهم، ويحصّنونها بالإحسان، فهو برّ بعماله، برّ بأمّته وبوطنه، وهو نابغة من نوابغ الإحسان، ما يتمنّى المتمنّي أن له به أمّة كاملة من هؤلاء الأغنياء الذين عنا الشاعر واحدًا منهم فعناهم جميعًا، إذ يقول:

يُمَارِسُ نَفْسًا بَيْنَ جَنْبَيْهِ كَزَّةً ... إِذَا هَمَّ بِالْمَعْرُوفِ قَالَتْ لَهُ مَهْلَا

ففي ماله حقوق لله، يقسّمها على عيال الله، وفي ماله حقوق لأمّته، يقسّمها على مصالحها العامة، وفي ماله حقوق لوطنه الثاني كفاء لما أفاء عليه من خير، واعترافًا بما لبنيه عليه من فضل الأخوّة، وحقوق لوطنه الأول، بدأت بذوي القربى والأرحام، ورفقاء الصبا والملاعب، وانتهت عند المصالح العامة، والمشاريع النافعة، والكرماءُ المحسنون في الأمم من نفحات الله، ففيهم من آثار رحمته سمة. وعليهم من شمولها مسحة، وعندهم أن غاية المال محامده وفضائله، وأن ثمرته رفع الذكر، وإعلاء القدر، وأن ادخار صنائع المعروف خير من ادخار المال.

ومن اللطائف النفسية في المحسنين أن كل واحد منهم مولع بناحية من نواحي الإحسان، تغلب على طبعه فتكون مجلى لكرمه، ومنتهى لإحسانه، حتى تغطي على النواحي الأخرى، فقد عرفنا من حاضر التاريخ وغابره أن للمحسنين أذواقًا في الإحسان. وفي نفوسهم اتجاهات، معلّلة في الغالب بآثار تتركها المشاهدات والتأملات في أذهانهم وعقولهم، فبعضهم يقف إحسانه على نوع من البؤساء كاليتامى أو المرضى أو الفقراء، وبعضهم يقف إحسانه على المبادئ الفكرية أو الاجتماعية النافعة، وينتهي الشذوذ ببعضهم في الرحمة إلى أن يقف إحسانه على الحيوان الأعجم، يخفف من شقائه، أو يحافظ على بقائه.

وأخونا خطاب مولع- بعد الإحسان العام الذي فُطر عليه- بالإحسان إلى العلم وتعليمه. وقد ملكتْ عليه هذه الجهة هواه، وهام بها هيام المغرم المفتون، يفيض ذلك على لسانه وفي أحاديثه الخاصة والعامة، وإن هذا الاتجاه منه لأصدق دليل على قوّة التمييز، وحسن الاختيار لجوانب الخير التي يخصها المحسنون بإحسانهم، وجوانب الخير تتعدّد وتتشابه، فيقع اختيار المقلّدين السطحيين على أسهلها في المراس، وأخفّها في الحمل، وأقربها لمدح المادحين، ويختار المحسنون الصادقون أثقلها محملًا، وأعمّها إفادة، ولا يشك وطني صادق أن أنفع الأعمال لأمّتنا الجاهلة هو التعليم والإنقاذ من شرّ الأميّة، وأن ألف جائع تطعمهم، وألف عار تكسوهم، لا يغنون عن الأمّة غناءَ عشرة تلاميذ تعلّمهم تعليمًا نافعًا، وتربّيهم تربيةً صالحة.

***

<<  <  ج: ص:  >  >>