وبرجل فذّ من رجال العمل المنظّم فينا؛ وتأثّر الارتياح والرضى المستعلن لمبرّة المحسنين من آل السبتي.
أهو خلل في المزاج يصوّر التافه خطيرًا، ويُصير الجهام مطيرًا؟ أم هو طول العشرة للأيام يسوّل للنفس، ويهوّل على الحسّ؟ أم هو التطوّر، يفسد التصوّر؟ أم هي روحة من هواء الجبال التي تبدّت في الصبا، وتندّت بالصَّبا؟ أم هي لمحة من الأجداد الأشاوس، الذين اختطوا "المحمدية" و "نقاوس"(٢)؟ لا أدري ... ولو شئت لدريت أن هذا الأخير، غير جدير بالتأخير ... من الكوارث ما يُطلق الألسنة فتندفع في التصوير والتهويل، أو في التخفيف والتقليل، إلى غير حدّ في ذلك كله، تبعث الأسى والشجى في النفوس، أو تبعث العزاءَ والسلوى إليها ... وإن منها لما يرمي الألسنة بالحصر، ويُشرج الحنايا على الغمّ، ويطوي الوجوه على الوجوم.
وإن كارثة فاس لمن النوع الثاني، وكلما لاءم النسيان جرحها، نكأت الذكرى ترحها، وعني أحدّثكم، فقد بلغني خبرها بعد أيام من وقوعها، لبعدي عن مواقع الأخبار، وانقطاعي في مطارح الأسفار، فكأنني صعقت لهول الحادث وفظاعته، ولم أحتمل سماع تفاصيل الحادثة ممن سمعها من المذياع، أو قرأها في الصحف، وبقيتُ على تلك الحالة من التأثر، لا أستسيغ إعادة أخبارها، ولا أنشط لكتابة كلمة عنها إذا حاولت ذلك، حتى أفضتْ بي تلك الحالة إلى نوع من سوء الأدب لست بأهله، ونمط من التقصير في الواجب ليس لي بعادة.
بقيتُ على تلك الحالة التي لم أعهدها من نفسي، ولم يعهدها الملابسون لي مني، حتى سمعت خبر إحسان الأخوين الكريمين: الحاج عمر السبتي، والحاج محمد السبتي، وتكرُّمهما بدار كاملة المرافق على الطلبة الجزائريين المهاجرين في طلب العلم بفاس، فكأنما نشطت من عقال وكأنما مسح ذلك الخبر كل ما ألمّ بنفسي من حزن، وإن هذا ليس بغريب من آثار الإحسان في النفوس؛ ونشطت بعد ذلك لكتابة هذه الكلمة القديمة الجديدة، أُوفّي بها أربعة حقوق لأربع جهات: حق أبنائنا الشهداء في ذكرهم، وإعلان التفجّع عليهم في كل مناسبة؛ وحق إخواننا أعضاء جمعية الطلبة الجزائريين بفاس، فقد وازنوا الأمّة، في علوّ الهمّة. فقاموا مقامها، وواسوا عنها، وبكوا بعيونها، واستبكوا باسمها، واضطلعوا بالواجبات عن الأسر المفجوعة؛ وحق الأمّة المغربية الماجدة التي كفكفت دموع أختها، بعطف المليك، وتأبين الشاعر والخطيب، وتعزية العالم والمعلم، وعناية الأحزاب، واغتمام
٢) المحمدية، هي بلدة تُعرف اليوم بالمسيلة (مؤنث المسيل)، أُسّست في القرن الثاني للهجرة وكانت فيما بعد ذلك عاصمة إقليم الزاب، وخرج منها جماعة من أئمة العلم، وأقام بها الشاعر ابن هانئ قبل أن يلتحق بالأمراء الفاطميين بالقيروان، وبها وُلد الشاعر ابن رشيق. أما نقاوس فهي مدينة أخرى تقع في مسلك من مسالك الأطلس بين سطيف "بلدنا" وبين طُبْنَة.