للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ذلك الغير إلا تابعة مسودة مستعبدة نازلة عن ذاتيتها، لأنها طارت بجناح مستعار، الطائر به واقع، وهذا هو المسخ، بل هذا هو الموت، ومن المؤلم أن يكون القاتل هنا هو الشباب مصدر الحياة والإحياء، وما ركب هذه الشنعاء إلا لأنه انحرف فغرّته التهاويل، وفتنته الأقاويل، ألا إن الشباب هم الساف الجديد في بناء الأمّة، فإذا أفرط في التأثّر رمى الجسم كله بالاعتلال.

هذه حقيقة، يجب أن تقف بجنبها حقيقة أخرى، وهي أن الشباب ليسوا هم المسؤولين عن هذه الجريمة الشنعاء، وإنما المسؤول هو المجتمع الإسلامي المنحلّ المختلّ المعتلّ الذاهل الغائب عن الدنيا، والمسؤول الأول من هذا المجتمع هم أولياء الأمر من آباء وقادة وحاكمين، وفي كلمة واحدة: المسؤول عن كل جيل، لاحق هو الجيل السابق، فإذا تداخلت الأجيال السابقة تعلّقت بهم التبعة جميعًا، ولا عذر يبرئ من هذا الذنب، وسيرى القارئ في أثناء هذه الدراسات شرح هذا الإجمال.

ومن سوء حظ الأمم الإسلامية (وهو في نظرنا وحكمنا من سوء تصرّفها إذ لا مدخل للحظ في مصاير الأمم) أن تطوّرها لا ينشأ في هذا العصر عن استعدادها الطبيعي، وليس لها في أسبابه يد حتى تبنيه طبقًا عن طبق بنظام تدريجي يكمّل فيه الأخير ما بدأه الأول، ولكنها مغلوبة على أمرها، تابعة لغيرها في كل شيء وقد أصبح تيار الحضارة الغربية جارفًا لا يمهل ولا ينتظر، وأصبح شباب الأمم الإسلامية معرضًا لهذا التيار من أول خطوة في الحياة، وقد أخذ عليه الحياة من أقطارها، فتآثر بهذه الحضارة وأعشته أنوارها فأحرقته نارها، والآباء بين غافل، لأنه جاهل، وبين متذمر يدرك العواقب ولكنه لا يصنع لاتقائها شيئًا، والحكومات الإسلامية فيما بلونا من أمرها إما مأخوذة بهذا السحر، فهي تجري وراء الساحر على غير بصيرة، وقد أوحى إليها فيما أوحى أن القيام على الحقول والبقول، ألزم لحياتها من القيام على العقول، وإما متخلفة عن قوافل الزمان، عاكفة على الدمن، معتمدة في العصر الذرّي على سيوف الهند واليمن.

لذلك كله أصبح من الواجب على قادة النهضة الإسلامية وحماتها أن يرسلوا صيحة جهيرة وراء هذا الجيل الراحل عن الديار بروحه وعقله وهواه، ليرجع إليها، وليس براجع إلا إذا عرف لماذا يرجع، وماذا يجد إذا رجع، فلنعرفه أنه سيجد ماضيًا مشرقًا يتصل بحاضره اتصال الأصل بالفرع، وسيجد تاريخًا حافلًا، وذخائر عقلية، ومجالات روحية تمكن له في الإنسالية الكاملة، وتضمن له جميع المتع العقلية والفكرية والروحية والبدنية، إلا هذه الشهوات السطحية والنزوات الحيوانية فليس لها مكان عندنا، ولا قرار في شرقنا، فإذا رجع هذا الشباب من غربته العقلية، وعاد إلى مستقرّه الشرقي، واطمأن إليه أمِنّا على تاريخنا الانقطاع، وأمِنّا على ذخائرنا الضياع، لأنه سيأخذها بقوّة الشباب، ويقين العقيدة، وتزكية

<<  <  ج: ص:  >  >>