للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أحدنا بادرة، إلا أتبعها الأميري بنادرة، وعلى كل مائدة من هذه الموائد العربية الكريمة يحضر الإثنان والجماعة من كرام الإخوان الباكستانيين، ويشاركون في بهجتها بما عندهم من العربية، أو بما ينقله الإخوان عزام والأميري إليهم بلغتهم الأوردية، وينقلان إلينا عنهم ما يزيد الجو إشراقًا، ويزيد الأنس امتدادًا، ويزيد الأرواح امتزاجًا، فكنت لذلك كله كأنني بين أهلي وإخواني في الجزائر، لم أفقد إلا وجوههم- لا فقدتها- بل إنني تخففت هنا من ذلك الإطراق الذي يستلزمه التفكير، ومن ذلك التفكير الذي يستدعيه العمل، ومن ذلك العمل الذي تتطلبه وظيفة جمعية العلماء، ولقد كنت أجلس مع أولادي الساعات وكأنني لست منهم وليسوا مني، وكأنني بينهم أصم لا يسمع ولا يعي، لأنني إذ ذاك أفكر في مقالة "للبصائر" أنفض عليها سواد ليلي لتكون مع الصباح في المطبعة، أو في سفرة، تثبت جواز الطفرة، أو في حفلات تزاحمت أوقاتها، وما من حضوري في جميعهن بد، أو في مشاكل المعلّمين والجمعيات، وهي صرف السوق، وملء الوسوق، أو في فثء غضب بالتحمل، وإرضاء غاضب بالتجمل، فالآن أسرح وأمرح، وألقي الهموم عن كاهلي وأطرح، فقد ألقيت تلك الأثقال على من لا يؤوده حملها لفضل علمه، ووفور عقله، وحدّة ذكائه، وشدّة حزمه، وهو الأخ الأستاذ التبسي، وإن جزاءه علي أن أمدّه بمدد من الأدعية الصالحة في مجالي الإجابة من صلواتي وخلواتي أن يعينه الله على تلك الأعمال التي بلوتها مختبرًا، واضطلعت بها مصطبرًا، فوجدتها لا تقوم إلا على اثنتين: زكانة الرجال، في ركانة الجبال، وكلتا الخلتين يجمعهما أخونا الأستاذ التبسي، وهذا تصوير غريب، لحالتي في المشهد والمغيب، أربعو أن يقع- على بعد الدار- لإخواني هناك وفي مقدّمتهم أخي الأستاذ التبسي فيعينهم جدّه على الجدّ، وتدفع عنهم دعابته سأم العمل المتشابه، وضجر النفوس المرهقة. ومن دعابته أنني تخففت من الأعمال، ولا والله ما تخففت، وإنما انتقلت من تعب مملول لاتحاد لونه إلى تعب متجدّد الألوان، وفي تجدّد الألوان مجال لتجدّد النشاط وباعث على إقبال النفس وتفتّحها للاستئناف.

وكل جمع إلى افتراق، فما تمّ ذلك الأسبوع الزاهر الذي خففت عنا مجالسه وطأة حرارته، حتى بدأت الخيام تقوض، وأصبح الذاهب من الأيام والرفاق لا يعوّض، فرجع الأستاذ المفتي إلى القاهرة، وودّعنا الوزيران عزام والأميري إلى رحلة في دواخل باكستان قرّراها وحدّدا مواعيدها قبل وصولي، وحيث أن لها مساسًا بالرسميات فلا مناص من تنفيذها، وبعدهما بقليل خرج الأستاذ الفضيل في رحلة إلى الهند وباكستان الشرقية وجاوة، وتأثّر السامر لغيبة هؤلاء الأربعة فاستوحشت مغانيه، واستبهمت معانيه، ولكن بقيت لنا من السيد الخطيب بقية تؤنسنا عند طروق الوحشة، ورأيت أن ذلك الأسبوع كان استجمامًا من نصب السفر، وقد آن لي أن أبدأ العمل الذي من أجله قدمت، وفي سبيله أقدمت، وهنا تجلّت المعضلة، وحلّت المشكلة (مشكلة اللغة)، التي هي وسيلة الفهم والتفاهم، فلنتحدّث عليها.

<<  <  ج: ص:  >  >>