للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يسمّى (المراجعات) ونزلا عن ذوقهما فيها لذوقي حتى في تصحيح الكلمات والتراكيب، ثقة منهما بي، حفظهما الله، فأشهد لوجه الأدب أنهما شاعران، تتّحد في شعرهما ميزة السلاسة والرقة وخصب الخيال، وتوحّد بينهما الروحانية والمزاج الديني القوي، وقد لازماني على طول مدة إقامتي في كراتشي واقترحت عليهما تحكيك شعرهما وعدم الاكتفاء بفيض الخاطر، فإن فعلا ونشرا شعرهما بعد ذلك ليكوننّ منه مزيد في ثروة الأدب.

...

وصلّينا الجمعة في اليوم الأول في مسجد جديد قريب من الفندق مع الوزراء الثلاثة، الخطيب وعزام والأميري وسماحة المفتي الأكبر، وولدنا الفضيل، وقد كبر في صدري شأن هؤلاء الوزراء، ورأيت عز الدين كيف يعلو على عز الجاه والمنصب، وأعظمت فيهم هذا السعي الحثيث إلى ذكر الله في وقت بدأ فيه التحلل الديني من أمثالهم، ثم علمت مع طول العشرة محافظتهم الشديدة على إقامة الشعائر، وسعيهم إلى المساجد للجمعة لا يتهاونون ولا يترخصون، مع الفقه الصحيح لأحكام الدين، وما منهم إلا عالم ديني بأوسع ما يدلّ عليه هذا الوصف، وفهمت أن هذا كله نتيجة التربية البيتية الصالحة، وفي المفوضية السعودية يقام الأذان لجميع الأوقات، وفيها مصلّى مخصوص، وجميع الموظفين في السفارة المصرية والمفوضية السعودية يصلّون، وإذا صلح الرئيس صلح المرؤوس.

زارني في الأيام الثلاثة الأولى جميع القائمين بالأعمال والملحقين في المفوضيات العربية، وزارني وزيرا إيران وأندونيسيا، ووزير سيلان وهو مسلم، مع أن المسلمين في سيلان لا يجاوزون بضع مئات من الآلاف في سبعة ملايين من الوثنيين، وقد رغبني في زيارة سيلان، فأخبرته أنها في برنامج رحلتي، ففرح وعرض عليّ التسهيلات اللازمة.

كنت في الأيام الأولى لوصولي إلى كراتشي في جو عربي خالص طليق، لم أشعر فيه بشيء من الوحشة أو من غربة اللسان أو من منافرة الطبع أو من شذوذ العادة، ولم أحمل فيه نفسي شيئًا من الكلف والمجاملات، بل كان فوق ذلك كله جوًّا أدبيًا علميًّا راقيًا، يزيّنه وقار المفتي الأكبر، ودعابات الأميري اللطيفة المتتابعة، ومحفوظات عزام الغزيرة وذكرياته التاريخية، وكياسة الخطيب التي هي التفسير الصحيح للظرف الحجازي الذي ضربوا به المثل، وجِدُّ الفضيل الذي زادته التجارب رسوخًا. وكنت أجري مع كل واحد منهم في عنانه، كأننا لدات سن، وخلطاء صبا، وعشراء دار، وكانت موائد الضيافة تجمعنا كل يوم وكل ليلة في دورهم على التناوب، فتتطاير النكت الأدبية، وتشيع البشاشة والأنس، وتتجلّى الأخوّة في حقيقتها، ويشهد الكرم لنفسه: كرم الطعام، وكرم الكلام (حتى كلنا رب منزل) فلا تبدر من

<<  <  ج: ص:  >  >>