للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بخير الذكر، وأشهد لله ثانية أن القوم كانوا يزورونني بنيات صادقة، ومحبة للعلم خالصة، واحترام للعلماء عظيم، وأن جهلهم للعربية ليس نقيصة فيهم وحدهم، إذ ليس خاصًّا بهم، وإنما هو شيء عام في الأعاجم كالأتراك والفرس وجاوة.

...

أبت لي همّتي أن أجمع بين الجهل والعجز، فتعلّمت في بعض يوم ألزم ما يلزمني للضروريات، وأهمها- عندي- طلب الماء البارد في ثلاث كلمات: طاندة، باني، لاو، والأولى معناها بارد، ولكن مخرج الطاء فيها من أغرب المخارج، والثانية معناها الماء، والثالثة معناها هات، ومن هذه الجملة تعلم صعوبة التركيب وغرابته في ذوق العربي، ومن اللطائف أن أستاذي في هذه الجملة هو ولدنا الفضيل حلّ به ما حلّ بي فحفظ ثمانين كلمة من الأوردية، فألّف منها قاموسًا غير محيط، وفتح الله عليه فأصبح معلّمًا لتلميذ واحد، هو أنا، ثم حفظت زيادة عن شيخي كلمة "برف" بفتح الأولين وسكون الثالث، ومعناها الثلج، ثم حفظت ثلاث كلمات ضرورية، وهي (أو) ومعناها تعال، و "جاو" ومعناها اذهب، و "جالدي" ومعناها أسرع، وأسعفتني الذاكرة بكلمة تركية حفظتها قديمًا ووجدتها هنا، وهي "نماز" ومعناها الصلاة، وحفظت "روطي" ومعناها الخبز، و"نماك" ومعناها الملح، ومن حصل الصلاة والماء البارد والعيش والملح فقد فاز فوزًا عظيمًا، وحفظت "بهوت" ومعناها كثير، و"امروز" بكسر الهمزة ومعناها اليوم، وسألت عن أمس وغد، لأجمع بين الأزمنة الثلاثة، فقيل لي: "كل" بفتح الكاف وسكون اللام، وإنه صالح لهما معًا، وأن الفرق بينهما موكول إلى السياق، فقلت دعوا هذه إلى السياق، إلى كلمات أخرى ظهر بها شفوفي على شيخي، وكم ترك الأول للآخر، وحفظت رقم غرفتي بالإنكليزية وهو: وان، تو، فايف، يعني مائة وخمسة وعشرين، فأصبحت بهذه الكلمات في أنس واطمئنان، ولذت فيما عدا ذلك بالسكوت، فإذا دخل عليّ زائر ولم يكن مترجم، حيّا، ورددت، وبش وبششت، ثم انقلبت سلكًا أفرغ من شحنته فلا سلب ولا إيجاب، ولكي أدفع عنّي عنَت التليفون إذا خلوت حفظت جملة بالإنكليزية معناها لا أتكلّم الإنكليزية، لا أتكلّم الأوردية.

...

جرت هذه الوقائع كلها في الأيام الثلاثة الأولى فقلت في نفسي: إذا كان هذا في الخصوصيات، وما أهونها، فكيف العمل في العموميات التي قطعت آلاف الأميال من أجلها؟ ولكن الله لم يطل أمد هذه المحنة، فاجتهد الإخوان في إحضار ترجمان عرفوه، في المؤتمرات، إذ كان يترجم خطب العلماء العرب إلى الأوردية، وهو بارع فيها، معدود من خطبائها، ويفهم العربية فهمًا جيّدًا، ويترجم الدينيات على الخصوص ترجمة دقيقة، وقد

<<  <  ج: ص:  >  >>