للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومصالح الناس فيه، ووجد نفسه أعجميًّا بين أعراب. أما العربية فإنك لا تلقى الناس بها إلا كما يلقى السميع الأصم، ولتنتظر حتى تجتمع بمولانا فلان، أو العلامة فلان، وما أقلّ هذا الصنف في هذا البحر الزاخر، وأما الفرنسية فقل من يسمع بها فضلًا عمن يحسنها، وأقرب إلى النجاح من يحسن الفارسية، فقد يجد واحدًا في الألف يحسن التفاهم بها.

وأنا لا حظّ لي في شيء من هذه اللغات، ولم يفتق الله لساني إلا بالعربية، وأنا راض بهذا، وإن كنت لا أدري أي نوع من أنواع الرضى هو: أرضى العاجزين، أم رضى المكابرين؟ لذلك وجدتني من أول لحظة في مشكلة لا تُحلّ، وفي حرج لا يدفع، حتى في طلب الماء البارد من خادم الفندق، وفي التحية مع الزائر، وضيوف كراتشي من أبناء العربية كلهم مثلي، وإن فيهم لمن يحسن الإنكليزية أو شيئًا منها، فهو بها في بعض الراحة وبعض اليسر، كالأستاذ الأكبر مفتي فلسطين، فكنت أرتفق بهم في بعض الأوقات، فإذا خلوت انسدّت عليّ المسالك، يزورني الزائر عن قصد وشوق فلا نزيد على: السلام عليكم وعليكم السلام، فإذا جاوزتها إلى المألوفات في التحية مثل: صباح الخير، وكيف أصبحتم، وكيف حالكم، لم يفهم ما أقول، وأطلب الخادم لحاجة، فيسكت وأسكت، وألتجئ إلى الإشارة فلا تفيد، ويهتف التيليفون من سائل مشتاق يريد مني تحديد وقت للزيارة جريًا على الرسوم في زيارة (العظماء) فيبدأ الخطاب بالإنكليزية، فأقول: لا أفهم، فيثني بالأوردية لأنه فهم بالقوّة أني لا أفهم الإنكليزية فأقول: لا أفهم، فيكرّر الخطاب ولا أدري أهو بالأولى أم بالثانية، فأعتصم بلا أفهم، ثم أضطرّ إلى شيء من سوء الأدب، وهو رمي آلة التيليفون، وقد حملني الغضب مرّة على أن ألقيت على واحد من مخاطبي في التيليفون خطبة عربية أنيقة، قلت له يا سيدي لست من العظماء حتى تتعب نفسك بهذه المراسيم، ولو كنت منهم لكان لي ترجمان عيناه بالشرر ترجمان، أو خادم، يدفع عني الأوادم، أو سكرتير، يعامل مثلك بالتقتير، ولكنني رجل بسيط كالسمسار أو الوسيط، فزرني من غير أعذار، أو اغزني من دون سابق إنذار، وهلم نتعانق وتقضي حواجبنا الحوائج بيننا، أو نتصارع فتشتفي وأشتفي، فقال لي كلمة فهمت منها أنه يأسف لأنه لا يفهم العربية، فكرّرت عليه السجع، وقلت له: إن من الحيف أن لا تفهم لغة الضيف، ثم تريده على أن يفهم عنك (بالسيف)، وكانت هذه الأسجاع شفاء لغيظي، ولكنني كتمتها على الجماعة لأنني ما زلت في يومي الثالث، ويشاء الله أن يزورني في ذلك اليوم رجل فاضل مهذّب ذو مقام اجتماعي، وأن يجد معي ترجمانًا، ففهمت من مجرى الحديث أنه صاحبي، واعتذر بأنه طلبني لأحدّد له الوقت وأن من الأدب مع أمثالي أن لا يفاجأوا بالزيارة، وأسف أسف المؤمن الصادق على أنه لا يفهم العربية لغة القرآن، وأنه ذاب خجلًا حين لم يفهم ما خاطبته به، فقلت له: هوّن عليك فقد كنت أدعو لك بالخير، وأشهد لله أن صاحبي هذا رجل فاضل، وأنه من أصحاب الموازين الرابعحة في الفضائل، ذكره الله

<<  <  ج: ص:  >  >>