للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المواصلات التجارية لغمروا أسواق العالم بالقمح قبل أن تحضر قموح روسيا وشمال إفريقيا بشهور، ومن هيّأ الله له أدوات السبق ولم يسبق فهو محروم.

...

وصلنا راولبندي ووجدنا ممثلي كشمير في انتظارنا، وبتنا بها ليلتين، ألقيت في الثانية منهما درسًا في المسجد قبل صلاة الجمعة، واجتمعت بصديقنا على الغيب الأستاذ مسعود عالم الندوي، وفي صباح يوم السبت ركبنا سيارة خاصة لحكومة كشمير، وصحبنا ضابط اتصال شاب من الإدارة الخاصة بكشمير، وقد قرّروا أن نذهب من طريق، ونرجع على طريق آخر، لنشاهد جهتين من جبال كشمير الشاهقة ومن السلاسل المتصلة بها، واختاروا الذهاب على طريق "مرى" والرجوع على طريق "ايبت أباد" وهي أطول الطريقين.

سرنا بضعة عشر كيلومترًا في سهل قبل أن نصل إلى سلسلة جبال جرداء، تظهر للعين من راولبندي، وليست هي من جبال كشمير ولا قريبة منها، ثم دخلنا واديًا فيه قليل من الماء والأشجار المثمرة، وأخذنا في الصعود، وبدأت المناظر تختلف وتتلوّن، والمتعرّجات تتقارب وتتصاعد، ونحن ننتقل في كل خطوة من صحيفة تطوى إلى صحيفة تنشر، فننتقل من جميل إلى أجمل: شعاب وأودية وغابات من الصنوبر منقطعة، وقرى متناثرة هنا وهناك، متصاعدة مع الجبل، تحيط بها حقول من الشعير قليلة العرض جدًّا، ولكنها مستطيلة لأنها تابعة لوضعية الجبال، وإن الناظر ليعجب لهذه القرى كيف يتأتّى لها الصعود والهبوط والاتصال بالعالم، ولعلهم لارتياضهم على هذه الحياة تعوّدوا الاستقلال فيها، وقد يرتفقون ببعضهم فيما تدعو الضرورة إلى الارتفاق فيه، وان جبالهم لمتناوحة، يكاد إذا صاح أحدهم أن تردّد الجبال صدى صياحه فيسمعه الناس كلهم، وما زلنا مأخوذين بهذا السحر حتى انتهينا إلى قمة "مرى" بعد سير أربع ساعات كلها صعود ومنعرجات مدهشة مَخُوفة.

وقمة "مرى" ترتفع عن سطح البحر بسبعة آلاف قدم، فيما أخبرني به ضابط الاتصال (ألفان ومائتا متر وزيادة) وتحيط بهذه القمة غابات عظيمة من الصنوبر، وقد بني فيها من عهد الإنكليز عدة مرافق للمسافرين من فندق تتبعه مقهى ومطعم، وبها بيوت خاصة لسكنى الأسر، وغالبها من الخشب، ولكنها جميلة، فاسترحنا بها قليلًا وشربنا الشاي، وتمتعنا بالماء البارد بالطبيعة، وقد ذكرني بماء سطيف وشريعة البليدة وقنزات، ثم واصلنا السير وبدأنا في الانحدار من أول خطوة، كأننا كنا على مثل روق الظبي كما يقول المعرّي، واستدبرنا الصفحات التي كنا نراها، واستقبلنا صفحات أخرى من قمم وغابات متقطعة وقرى متقاربة وحقول قمح وشعير تظهر كالسطور في اللوح لضيقها واستطالتها، وتدرّجها من أعلى

<<  <  ج: ص:  >  >>