للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلى أسفل، وقد يبتدئ أول سطر من أعلى جبل وينتهي آخر سطر في حافة الوادي، وما أعجب هذا المنظر وما أجمله، لكأنك ترى فيه ميزانًا "تيرمومتر" إلهيًا بديعًا لِدَرَجات الحرارة، فترى- في صفحة واحدة- السطر الأخير على ضفة الوادي أصفر السنابل، علامة النضج والافراك، ترى الذي هو أعلى منه أقل منه في ذلك، وترى ما هو أعلى منهما لأول ما بدت سنابله وامتازت من الورق، وترى الذي هو أعلى منها دونها في ذلك، حتى تقع عينك على الحقل الأعلى فإذا هو أخضر نضر لم تتكوّن فيه القصبات ولا الكعوب، كأظهر ما يكون الفرق بين منطقتين متباعدتين عندنا في الجزائر، أو كمن يستدبر بسكرة ويستقبل باتنة في سني تبكيرها وخيرها، وهذا كله وأنت لم تعد مرمى بصر، في صفحة جبل، ولعمري إن هذا لأجمل منظر رأته عيناي في حياتي كلها.

وتراءت لنا- ونحن في هذه المنحدرات العجيبة- قطعة من وادي مظفر أباد، الذي يفصل باكستان عن كشمير، ويمرّ على قرية "جهلم" فيسمّى باسمها، فإذا هو كالثعبان ينساب ويلتوي بين تلك الجبال الشاهقة قوّيًا هدّارًا، ففرحنا بقرب الخروج من تلك المنحدرات، كما أخبرني ضابط الاتصال، ثم وصلنا القنطرة الحديدية الهائلة، وسلكنا من الوادي ضفّته اليسرى بالنسبة إلينا حتى وصلنا قرية مظفر أباد، وهي واقعة على ضفة هذا الوادي، لأول ما خرج من الجبال مغربًا واتجه إلى شبه الجنوب، وقد اتصل به واديان عظيمان أحدهما من الغرب والآخر من الشرق، تحت مظفر أباد، أحدهما على بعد نحو ميل منها أو أقلّ، والغربي على أبعد من ذلك قليلًا، فأصبح بهما نهرًا ذا غوارب، وزاده الانحدار روعة بالهدير والتراكب.

...

قد سلكت طرق الجزائر الجبلية بالسيارة، وإن منها الرائع المخيف، فما داخلني من الخوف ما داخلني في طريق "مرى" صعودًا وهبوطًا، فما أدرى أللغربة والغرابة دخل في ذلك؟ أم هو الحرص على الحياة، يقوى فيمن تتقدم به السن فتدنو من الآخرة مراحله.

<<  <  ج: ص:  >  >>