للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يحث على الفضائل العملية، وجعل بعد ذلك التحديد للفقير حقًا معلومًا في مال الغني يدفعه الغني عن طيب نفس لأنه يعتقد أنه قربة إلى الله، ويأخذه الفقير بشرف لأنه عطاء الله وحكمه، فإذا استغنى عنه عافه كما يعاف المحرم. فلا تستشرف إليه نفسه ولا تمتد إليه يده.

والقرآن هو الذي بلغ بهم إلى تلك الدرجة العالية من التربية، ووضع الموازين القسط للأقدار فلزم كل واحد قدره فكان كل واحد كوكبًا في مداره، وأفرغ في النفوس من الأدب الإلهي ما صيّر كل فرد مطمئنًا إلى مكانه من المجموع، فخورًا بوظيفته منصرفًا إلى أدائها على أكمل وجه، واقفًا عند حدوده من غيره عالمًا أن غيره واقف عند تلك الحدود، فلا المرأة متبرمة بمكانها من الرجل لأن الإسلام أعطاها حقّها واستوقن لها من الرجل واستوثق منه على الوفاء، ولا العبد متذمّر من وضعه من السيد لأن الإسلام أنقذه من ماضيه فهو في مأمن، وحدّد له يومه فهو منه في عدل ورضى، وهو بعد ذلك من غده في أمل ورجاء ينتظر الحرية في كل لحظة وهو منها قريب، ما دام سيّده يرى في عتقه قربة إلى الله وطريقًا إلى الجنة وكفّارة للذنب.

كذلك وضع القرآن الحدود بين الحاكمين والمحكومين، وجعل القاعدة في الجميع هذه الآية: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}، وان في نسبة الحدود إلى الله لحكمة بالغة في كبح أنانية النفوس.

القرآن إصلاح شامل لنقائص البشرية الموروثة، بل اجتثاث لتلك النقائص من أصولها. وبناء للحياة السعيدة التي لا يظلم فيها البشر ولا يهضم له حق على أساس من الحب والعدل والإحسان. والقرآن هو الدستور السماوي الذي لا نقص فيه ولا خلل: فالعقائد فيه صافية، والعبادات خالصة، والأحكام عادلة، والآداب قويمة، والأخلاق مستقيمة، والروح لا يهضم لها فيه حق، والجسم لا يضيع له مطلب.

هذا القرآن هو الذي صلح عليه أول هذه الأمة وهو الذي لا يصلح آخرها إلا عليه ...

فإذا كانت الأمة شاعرة بسوء حالها، جادة في إصلاحه، فما عليها إلا أن تعود إلى كتاب ربّها فتحكمه في نفسها، وتحكم به، وتسير على ضوئه وتعمل بمبادئه وأحكامه، والله يؤيّدها ويأخذ بناصرها وهو على كل شيء قدير.

<<  <  ج: ص:  >  >>