للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أيها الإخوان:

من سعادة أخيكم هذا أنّ حظّه من هذه الثروة المعنوية موفور، وأنه يكاثر بها ويفاخر، ويعتزّ بها ويغالي، ويعتدّ ويقالى، وحَسْبُه من الحظوظ في الحياة أن يكون له أصدقاء أصفياء من هذا الطراز، يصدقونه المحبّة، والمحبّةُ ملاك، ويصدقونه الهوى، والهوى مساك، ويمحضونه التقدير، والتقدير مسنّ، ويشاركونه في المبدإ، والمبادئ أرحام عند أهلها، وما لي لا أكون موفور الحظ من هذه الثروة وهؤلاء الإخوان الّذين أجتلي غررهم، وكأنّما أستشف من وراء الغيب سرائرهم، ما اجتمعوا إلّا بسائق واحد ليس من حدائه نغم الرغبة والرهبة، ولا هرج الرياء والنفاق، وإنما هو الوداد الخالص والصفاء الصافي، والتكريم لأخ أحبّهم وأحبّوه في المشهد والمغيب، والتقوا به في ميدان القلم بعيدًا وفي ميدان اللسان قريبًا، فكان بين أرواحهم وروحه تجاوب هو من أثر يد الله في الأرواح المتعارفة.

أيها الإخوان: إن من مذاهبي التي انْتَهتْ بي تجارب الحياة إليها أنني لا أفهم الصداقة كما يفهمها الناس، وإنما أفهمها امتزاجًا فكريًا سَبَّبتْهُ عوامل خفية المسارب في الجبلة الأولى، ولذلك فأنا أفهم أنّ الصداقة لا تزول ولا تنتهي بعداوة من الجانبين، فإن انتهت بعداوة من الطرفين دلّ ذلك على أنها ليست صداقة، وإنّما هي شيء مقنّع يُسمّيه العرف المنافق المتساهل صداقة وليس بها، إنما هو تجارة انتهت بانتهاء المصلحة، أو زواج متعة انتهى بانتهاء الأجل، أما الصداقة الطاهرة البريئة فهيهات أن تنتهي بعداوة، ولقد يعرف منّي إخواني الملابسون لي أنّي لم أعاد في عمري صديقًا، فإذا بادأني بالعداوة لم أجاره في ميدانها خطوة، ووكلته إلى الزمان الذي يقيم الصعر، فإذا هو تائب منيب أو خجلان متستر، وقد يسبّني أقوام بما ليس فيّ، فلا أقطع عنهم عادة من عوائد البر والرفق لعلمي أنّهم إنما يسبون غيري بعد أن يلبسوه اسمي، وإن هذا لمن طوابع التربية المحمّدية، بين أتباع سنّته، عبّر عنها بجُملة من جوامع كلمه: إنهم يقولون مذمم وأنا محمّد.

أيها الإخوان: لقد سمعت كلمات من بعض خطباء هذا الحفل وأنا غير راض بها ولا عنها، وأنا كنتُ- وما زلتُ- أحارب هذه الألقاب، وقد سمعنا من شوقي قوله: "إذا كثر الشعراء قلَّ الشعر"، وعلى هذا الوزن يصحّ أن نقول: إذا كثر المجاهدون قلَّ الجهاد.

إن المجاملات لا تكون إلا حيث يكون الضعف، وإن هذه الألقاب لا تتمكن إلا حيث تفقد المناعة الخلقية المتينة، ولذلك لا نجدها عند أسلافنا الذين قوي في نفوسهم سلطان الأخلاق، وما نبتت هذه المجاملات إلا في العصور الإسلامية المتأخرة حينما وقف تيار العلم والخلق، وضعفت دولة السيف والقلم، قادتهم هذه الحالة إلى التمَجُّد الأجوف بالكلمات الضخمة الجُوفِ، ولذلك كثرت الألقاب وصرنا نسمع هذه "الطغراء": الكاتب الكبير، المجاهد العظيم، الزعيم الكبير ...

<<  <  ج: ص:  >  >>