للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إنني لم أكن مجاهدًا، وإذا كنتُه ففي شيء واحد هو محاربة البدع والضلالات ومحو الأمية، وتعليم الأمة، وهذه الأمور عادية لا ترفع القائم بها إلى مستوى الجهاد. وحقًا إن الألقاب التي اعتدنا استعمالها إنما هي "طغراءات" جوف لا تحقق أمنية ولا تؤدي إلى غاية شريفة. إن عبد الحميد بن باديس كان إمامًا في العلم والتواضع ومع ذلك فما كان إخوانه يخاطبونه بشيء من ألقاب الزعامة الفضفاضة.

والذي أستحسنه هو أن يتخاطب المسلمون فيما بينهم بكلمة "الأخ"، أخْذًا من قوله تعالى: {إِنَّمَا ائمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}.

...

أيها الإخوان: إنّ مِن بين الأصدقاء الذين جمعتهم الصداقة في هذا الحفل الصادق ثلاثة قدم عهدي بصداقتهم فلم يزدد إلّا جدة: هم الأصدقاء المخلصون محمود شويل، وحسونة البسطي، ومحمد نصيف، فقد جمعنا الشباب الطامح والأمل اللامح بالمدينة المنورة منذ أربعين سنة، وتجاذبنا ملاءة العلم فضفاضة، وتنازعنا كأس الأدب روية، وزجّينا الأيام بالآمال العذاب، ولكننا نمنا في يقظة الدهر فما استيقظنا إلّا وبعضنا مشرّق وبعضنا مغرّب، وبعضنا في مدار الحوادث يُدارُ به ولا تدور، وها نحن أولاء اجتمعنا بعد بضع وثلاثين سنة، وكأنّ خاتمة الفراق وفاتحة التلاق خميس وجمعة لهما ما بعدهما، وكأنّ ما بينهما من هذه المدّة الطويلة انطوى ومحي، وكأنّ الذكريات بينهما حبال ممدودة أو سلاسل مشدودة، وكأننا لم نفترق لحظة، وكأنّ تلك الصداقة الصادقة بيننا شباب أمن الهرم، كما أمن الصيد حمام الحرم.

ايه أيها الرفاق، هل تذكرون ما أذكر من تلك الليالي التي كانت كلها سمرًا كما قالوا في ليل منبج؟ هل تشعرون بما أشعر به من تفاوت بين تاريخ الفراق وتاريخ التلاق؟ هل تشعرون كما أشعر بأننا كنا في هذا الفراق الطويل أشبه بالميت أغمض عينيه عن الدنيا وفتحهما على الآخرة؟ هل تحسّون كما أحسّ بأنّ مدّة الافتراق كانت صفحات كلها عبر ووخز إبَر، وجُمَل من الحوادث سمعنا بمبتداها وما زلنا في انتظار الخبر؟ .. هل أنتم شاعرون مثلي بأنّ آمال المسلمين، من يوم تركناها بالافتراق إلى يوم لقيناها بالاجتماع، تحققت ولكن بالخيبة، وأن أعمالهم نجحت ولكن بالفشل، أما آمالهم فما زالت كموتًا يسقيه وعد، وأما أعمالهم فما زالت إبلا يوردها سعد {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.

ايه أيها الرفاق: إن الزمان فرّقنا شبابًا وجمعنا شيبًا، ولئن أساء لي هذا فلقد أحسن في أننا اجتمعنا أصلب ما كنّا قناةً في عقيدة الحق، وأجرى ما كنّا أئسِنَةً في كلمة الحق، وأجرأ

<<  <  ج: ص:  >  >>