للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلسطين كان الراوية الثقة والضابط العدل. وقد حلّل تلك السبة الخالدة وعلّلها باثنتين: قبول الهدنة وفقد السلاح. ثم برأ الشرف العسكري العربي كله من وصمة التخاذل، ولم يعرج على التخاذل السياسي بين ملوك العرب وساستهم، ولكن عده لقبول الهدنة أحد سببي النكبة أبلغ من التصريح في الاتهام والتجريح، فإن الراضين بالهدنة هم رؤساء الحكومات العربية من ملوك وساسة لا قادة الجيوش.

كانت كلمات القائد البطل عن فلسطين تمسّ نفسي- وهو يلقيها- مسّة الكهرباء فتحرق ولا تضيء، لأنني- يشهد الله- كنت وما زلت من أشدّ الناس اهتمامًا بالحادثة، ثم من أشدّهم التياعًا بالكارثة، فإذا فاتني- لشقوتي- أن أشارك في وقائعها بجسمي، فلم يفتني أن أشارك فيها بقلمي، فكتبت مقالات نارية المعنى قاسية الألفاظ تكاد ترسل شواظًا من نار ونحاسًا على المتسببين في تلك الهزيمة المنكرة بغير أسبابها المعقولة عند الناس، ولكن بسبب لا يستسيغه عقل عاقل وهو قبول الهدنة ... لذلك كانت كلمات القائد تفيض من نفسه الجريحة وكأنما تفور من نفسي. حتى إذا سكت عن ساسة العرب أحسست بانفعال كنت أتمنّى أن أسكنه بشهادة حق من القائد الصادق عليهم تؤيد عقيدتي فيهم، فإن شهادة الحق تولّد الحق حتى لكأنه حقّان.

وتكلّم القائد البطل عن أولئك البائسين الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: وطننا فلسطين، والذين نسمّيهم مشردين ونحن شرّدناهم بما كسبت أيدينا، ووصف وصف المعايشين ما يلقونه من شقاء وما يتجرّعونه من غصص، وبدأ صوته يرتفع ويتهدج وعيناه تغرورقان بالدموع فتشهد بأنه يغالب أسًى كمينًا وهمًا دفينًا. وكانت الجمل العبقرية التي تساوي الدم الذي خرج من جسمه على ثرى فلسطين هي قوله: "كيف نلتذ بالطعام، وننعم باللباس والدفء، وان إخواننا ليتضورون من الجوع ويفترشون الغبراء؟ لماذا لا نصوم يومًا من الأسبوع عن اللحم، أو أسبوعًا من الشهر عن هنة من هذه الكماليات، ثم نرصد ثمنها لإطعام إخواننا الفلسطينيين وكسوتهم؟ إن الإمساك عن اللحم يومًا من الأسبوع أو عن الكماليات أسبوعًا من الشهر لا تميتنا ولكنها تحيي إخواننا". ثم رمى السامعين بالآبدة التي ظننت أن الجباه تندى لها عرقًا، إن لم تنخلع القلوب منها فرقًا، وهي قوله: "ان من العار أن نطلب لهم الحياة ممن أماتهم ونسأل لهم القوت من الدول العاتية التي حكمت عليهم بالموت جوعًا، وحكمت علينا بالانحناء ذلًّا ومهانة".

حقائق جلاها القائد على مئات من السامعين وما منهم إلا من له نباهة وذكر ومقام. جلاها في جمل حاكية، تحتها معانٍ باكية، وشرحها الوافي ينتزع مما يتصوّره المتصوّرون. ويصوّره المصوّرون من حال أولئك البائسين، وينتزع من تخاذل العرب ملوكًا وحكومات وسادة وكبراء وشعوبًا حتى ضاعت فلسطين وجاع أهلها، وتنتزع من حالة المسلمين المغفلين الذين ما زالوا- وهم ذوو عدد-:

<<  <  ج: ص:  >  >>