في الشهر ورصد أثمانها لدفع الغوائل عن مشرّدي فلسطين أو لغير ذلك مما تتفتق عنه العقول من أفكار، وتتمخّض عنه الهمم من آثار. فلم يظهر لها أثر إلا تلك الهزّة التي حرّكت الأيدي للتصفيق، ورسمت التأثّر على الوجوه، ونشرت شيئًا من التهلل على الأسارير ثم لا شيء.
إن تلك الكلمة العبقرية ليست كلمة من الكلام، وإنما هي فكرة عبّرت عنها ألفاظ، ومبدأ ترجمته عبارات، ولو كانت نفوسنا- معشر سامعيها- حية مستجيبة لفهمنا الكلمة بهذا المعنى، ولخرجنا من الحفلة منادين بها، داعين إليها، شارحين لمراميها، ناشرين لها في العالم الإسلامي، بادئين بأنفسنا في تنفيذها. ولكننا قوم بنينا أمرنا على اللعب واللهو، والخطإ والسهو، لا على الجد والصرامة، والعزة والكرامة، واطمأننا إلى عادة لا تطمئن عليها الحياة، فكل ما في أحزاننا عويل وبكاء، وكل ما في أفراحنا تصدية ومكاء، وكل استجابتنا لداعي الحق تشقق الحناجر بهتاف، والتقاء الأيدي على تصفيق.
ونبتت بعد تلك الكلمة التي لم تعها أذن واعية، فكرة قُطُر الرحمة، وهي فكرة جميلة صحبها العزم فكانت جليلة، ورافقها التنفيذ فكانت نبيلة، وحيّا الله مصر ولَقَّى أهلها نضرة كما كسى أرضها خضرة، ولكن قطر الرحمة ما هي إلا قطر من الرحمة، والمشرّدون أصبحوا بقعة إنسانية عطشى لا ترويها إلا الروائح والغوادي من سحب الخير، وأين الفكرة التي تختصّ بمصر من الفكرة التي تعمّ العالم الإسلامي؟ إن فكرة "الصوم" لو تمّت وانتشرت وصحّت العزائم على جعلها عادة وموسمًا لم تقف عند استحياء المشردين وكفكفة دموعهم، بل كانت تغسل الخزي وترحض العار، وتسلّح جيشًا لاسترداد فلسطين.
أيها العرب: ها هم أولاء إخوانكم المشرّدون على غلوة سهم منكم لو تسمعتم لسمعتم أنينهم من الألم يتردد. وحنينهم إلى الديار يتجدد، ودعاءهم إلى الله يرتفع على كل من أضاعهم وأجاعهم.
إنهم إخوانكم، وإنها أعراضكم، والقرابة موضع الثواب والعقاب عند الله. والعرض محل المدح والذم عند الناس. وإنهم انسلخوا من الزمان، فلا ماضي ولا حال ولا مستقبل. فهل تأمنون أن يبقى أبناؤهم الناشئون في هذه الحالة على الإسلام والعروبة؟ وهل تأمنون أن يطول عليهم الأمد، ويستحكم فيهم اليأس منكم، فيبايعون اليهود على العبودية المؤبّدة؟
أيها العرب: ساء مثلًا من أفهمكم من معاني العروبة أنها نسبة إلى جنس واعتزاء إلى جد والتصاق برقعة من الأرض، فعاجلوا هذا السطر الخاطئ بالمحو والشطب وخذوا العروبة على أنها ليست جلدة تسمَرُّ أو تصفَرُّ ولا بلدة تغبر أو تخضرّ، وليست متاعًا مما يرث الوارثون ولا أرضًا مما يحرث الحارثون وإنما هي بناء مآثر وإعلاء أمجاد، وإنما هي خلال تتفتّح عن أعمال، وإنما هي عزائم لا تعرف الهزائم، وانما هي طموح وجموح: طموح