للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وان سبعين في المائة من قضاياهم لا تسمع بها الحكومة، وقد أدركتُ وأدرك الأستاذ بقية من شيوخ تلك القرى عاشوا الثمانين والتسعين من أعمارهم ولم تَرَ أعينهم فرنسيًا واحدًا في ذلك العمر المديد، ويعاون هؤلاء الأمناء على تربية الجمهور أن في كل قرية جامعًا للجمعة ومساجد للخمس وخطباء من أنفسهم يختارونهم بأنفسهم، وفي كل مسجد حلقًا لتحفيظ القرآن وأخرى لدروس الدين والعربية، لا سلطان للحكومة على هذه المساجد ولا على هذا التعليم المسجدي في هذه القرى دون سائر القطر الجزائري: فإن الحكومة الفرنسية استولت على جميع مساجده وأوقافه واحتكرت لنفسها التصرف في أئمته وخطبائه، وان هذا لموضوع طويل جاهدت جمعية العلماء في ميدانه عشرين سنة وما زالت تجاهد.

في هذه القرى السالمة يتزوّج الرجل الصالح بالمرأة الصالحة فيلدان الولد الأصلح، وإذا كان الطفل يتقلّب بين أحضان الصالحين وحجور الصالحات، ويرجع من أخدان صباه وعشراء داره وزملاء ملاعبه إلى طفولة طاهرة راشدة تحرسُها أعين المجتمع كله، فأخلق به أن يكون مثالًا للإنسان الكامل.

ثم فتح الأستاذ عينيه أول ما فتح على شماريخ الأطلس الأصغر وقممها الشمّاء، وشناخيبها المتناوحة وغاباتها الطبيعية التي تكسو سطوحها، وغابات الشجرتين المباركتين- التين والزيتون- التي تجلل سفوحها، وعلى الوديان العميقة التي تخترقها هدارة السيول، وعلى مناظر الثلوج التي تكسو تلك القمم ثلث السنة، فاكتسب من كل ذلك هدوء التأمل، ومتانة الفكر، وصلابة العقيدة، وركانة العقل، وثبات الصبغة، ووعورة الجدّ حتّى لا محلّ معه لهزل ولا لهزال، وإنّ التوعّر لَألزم الخلال للرجل، لا سيّما في هذا العصر الهازل المتخنث.

...

ثم انتقل من ذلك المحيط بعد أن أتقن القرآن الكريم حفظًا، وألمّ بمبادئ العلوم إلى مدينة قسنطينة، وهدتْه بصيرته النيّرة وقريحته العطشى إلى الاتصال بباني النهضة الجزائرية بجميع فروعها ومربّي الأجيال الحديثة فيها على هدي القرآن وخُلُق محمد عليه السلام، أخطب علماء الإسلام في عصرنا وأقواهم بيانًا لمحاسن الإسلام المرحوم الشيخ عبد الحميد ابن باديس، سليل تلك الأسرة التي خلفت الفاطميين على مملكة افريقية، وللمرحوم طريقة غريبة في وصل تلامذته بالله وتفقيههم في حقائق سُنَنه في الأنفس والآفاق، وله قدرة عجيبة في استلال النقائص من نفوسهم، وفي ترويضهم على الكمالات النفسية واللسانية والبدنية، وفي إعدادهم لمراتب الرجولة التي لا تخضع إلّا لله، وفي تعويدهم على أساليب الدعاية وتزويدهم بدلائل الحق.

<<  <  ج: ص:  >  >>