شبيبته وأوائل كهولته- أن أعرّفهم بشيء من نشأته، فإن ملكات القوة إنما تثبت إذا كان وضعها صحيحًا وعلى أصل صحيح، وإن العئم بهذا شيء أنفردُ به دون الإخوان، فمن الجوامع بيني وبين الورتلاني قرب البلدين وقرب الميلادين، بين ميلادي وميلاده في الزمان بضع عشرة سنة، وبين مولدي ومولده في المكان مسافة لا تزيد على ثمانين ميلًا.
وأقول إنه رجل تضافر على تكوينه قوة الاستعداد للخير، وحسن الإعداد له، أما الاستعداد للخير فهو من أثر يد الله في عبده إذا أراد به خيرًا، وقد خلق الرجل مستعدًا للعظائم، مهيّأً لمعالي الأمور، مرشحًا للقيادة، يَلمح فيه المتفرس- وهو صغير- ملامح البطولة، ومخايل الاعتداد بالنفس والاعتزاز بالذاتية، والذكاء الذي يكاد يحتدم في جوانب صاحبه، ويرى فيه المتوسّم- وهو شاب طرير- جرأة على المكاره يصحبها رأي عاقل وعزم صادق، وجرأة على الطغيان والظلم يصحبها قول مسدّد وعمل دائم، وحركة غير معتادة في لداته من الشبان، وطموحًا نزّاعًا إلى العُلى، وعزّة نفس متسامية إلى الكمال، وثورة على الذين يصفون للأمّة الجزائرية سعادة الآخرة ولا يسلكون بها سبيلها، وعلى الذين يصفون لها سعادة الدنيا ويسلكون بها غير سبيلها.
وأما الإعداد فيبدأ من البيت الذي فيه وُلد، والقرية التي فيها درج، والمحيط الذي فتح فيه عينيه، والمضطرب الذي اضطرب فيه طفلًا وشارخًا، والنشأة التي عليها نشأ.
نشأ الأستاذ الفضيل في بيت يجمع حاشيتي النسب والحسب، والخلق الموروث والمكتسب، ويتصل سند العلم فيه إلى أجداد، نبغ منهم في القرون الثلاثة الأخيرة آحاد، ويمتاز هذا البيت بالتدين المتين والروحانية المتألقة والتربية الربانية والاتّصال القويّ بالله والتقلّب في مراضيه، والجري على الفطرة السليمة التي لم يمسسها زيغ، والاستقامة الشرعية التي لم يلابسها عوج، يحوط كلَّ ذلك علم متسع الجوانب بالنسبة إلى زمانها ومكانها.
ثم درج أول ما درج في قرية تحيط بها قرى، تحيط بهنَّ مجاميع من القرى لم يطرقها دخيل منذ دخل الإسلام، وكلّها متساندة على حماية الدين والعرض والخلق والمال في نظام ذي نزعة جمهورية يقوم بتنفيذه في كل قرية جماعة منتخبون من أهل الفضل والعقل والعدل، ويسمونهم العقلاء أو الأمناء، ولهم في كل قرية دار الأمناء يجتمعون فيها كل يوم ثلاثاء لدرء المفاسد وجلب المصالح، فلا يلمُّ بالقرية شرّ، ولا تنجم فيها بدعة، ولا يقع اعتداء من شخص على شخص، ولا تشم رائحة مما يمسّ عرض الغائب أو الحاضر، إلّا بادروا ذلك بالصلح أو بالحسم أو بالعقاب، ولهم في ذلك أحكام نافذة السلطان تقوم بالمصلحة ولا تجافي أحكام الدين ولا تدع المجال لِتَدَخُّل الحكومة الاستعمارية وأعوانها،