للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَمَن آتاه الله من أبنائنا حظًا من الموهبة وقف عندها وأخذ يعصر المواهب عصرًا، فتبض له بشيء وتشحّ بأشياء، لأنه لم يرفدها بالأمداد التي تفتقر إليها، والمواد التي تتغذّى منها من المحفوظ والمقروء المهضوم والمدروس المفهوم، فالملكات الأدبية لا تكفي فيها القريحة والطبع حتّى تمدّها الصنعة بأمدادها، وأوّلها متن اللغة غير مأخوذ من القواميس اللغوية لأنها لا تنتهي بصاحبها إلى ملكات لغوية ولا أدبية، وإنما يجب على من أراد أن يربّي ملكته على أساس متين أن يأخذ اللغة من منثور العرب ومنظومهم، فيستفيد بذلك فائدتين: الأولى الكلمة ومعناها، والثانية وضعها في التركيب وموقعها منه وموقعه من النفوس، وحسن التركيب هو سر العربية، ويسمّيه علماء البلاغة حسن التأليف، ومن كلماتهم التي سارت مسير الأمثال قولهم: ولكل كلمة مع صاحبتها مقام.

أما أخذ الألفاظ متناثرة من كتاب لغة كالقاموس المحيط ثم وضعها في تركيب كيفما اتفق، فإنه عمل بعيد عن التوفيق مجانب للصواب لأن صاحب القاموس لم يُرد أن يُكوّن بكتابه أديبًا، وإنما أراد أن يخلق مدرّسًا، وقد ذكر كلمة في خطبته دلّت على مقصوده كلّه، فهو يقول في كتاب الصحاح: ولما رأيتُ اقتصار الناس عليه بخصوصه، واعتماد المدرّسين على ألفاظه ونصوصه ... الخ، فهو إنما يريد كتابًا يعتمد عليه المدرّسون بدلًا من صحاح الجوهري، وهو يريد بالمدرّسين مدرّس القواعد العلمية في زمنه الذي هو زمن انحطاط الأدب ونزوله إلى الدرك الأسفل وفساد مقاييسه حتّى يصبح ابن حجر حافظ السنّة وأفقه فقهائها في عصره شاعرًا، وما هو بشاعر.

وإذا ذكرنا قاموس الفيروزابادي فما كلّ القواميس مثله: فلسان العرب كتاب يعلّم اللغة، وكتاب المقاييس لابن فارس كتاب لغة يعلّم الأدب، وكتاب المخصّص لابن سيده كتاب لغة وأدب معًا، أمّا اللغة الحقيقية فهي أشعار العرب وأحاديثهم وخطبهم ومحاوراتهم، وأما كتب الأدب المحض فهي كتب الجاحظ والمبرد وابن قتيبة وكتب المحاضرات من مثل عيون الأخبار ومحاضرات الأدباء والعقد الفريد ولباب الآداب للأمير أسامة بن منقذ وكتب النقد ككتابي قدامة بن جعفر على صغر حجمهما والصناعتين للعسكري والعمدة لابن رشيق حتّى تنتهي إلى المحيط الهادي: الأغاني وما أدراك ما الأغاني.

محالٌ أن تكمل ملكة في الأدب لِمَن لم يقرأ هذه الكتب كلّها قراءة تأنّ ودرس، ويحفظ لكل شاعر مجل جاهلي أو إسلامي أشرف شعره وأجزله، ثمّ يأتي كمال الأدب وهو أن يعرف طبقات الشعراء وموازينهم وخصائصهم، وأن يعرف من السير والأخبار ما يحلي به أدبه نظمًا أو نثرًا، فإن الأدب بدون هذه النكت كالطعام بلا ملح، وما سمعتُ قطعة من الشعر لأديب ولا قرأتُ له قطعة نثرية إلّا عرفتُ منها ما قرأ من الكتب، ولقد وعكتُ مرّة فأرسل إليّ أديب يُسليني بقطعة من الشعر، منها:

<<  <  ج: ص:  >  >>