للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقهي يستند على الاستقلال في الاستدلال، وإعدادها لبلوغ مراتب الكمال، وعدم التحجير عليها في استخدام مواهبها إلى أقصى حد.

...

وأما المذاهب الكلامية فلم يكن أثرها بالقليل في تفرق المسلمين وتمزق شملهم، ولكنها لما كان موضوعها البحث في وجود الله وإثبات صفاته، وما يجب له من كمال وما يستحيل عليه من نقص- كل ذلك من طريق العقل- كانت دائرتها محدودة وكان التعمق فيها من شأن الخواص، وقعد بالعامة عن الدخول في معتركها إحساسها بالتقصير في أدواته من جدل وعقليات يحتاج إليها في مقامات المناظرة والحجاج، فليس علم الكلام كعلم التصوّف مطية ذلولًا يندفع لركوبها العاجز والحازم. فالتصوف شيء غامض يسعى إليه بوسائل غامضة، ويسهل على كل واحد ادعاؤه والتلبيس به. فإن خاف مدعيه الفضيحة لم يعدم سلاحًا من الجمجمة والرمز وتسمية الأشياء بغير أسمائها. ثم الفزع إلى لزوم السمت والتدرع بالصمت والإِعراض عن الخلق، والانقطاع والهروب منهم ما دام هذا كله معدودًا في التصوف وداخلًا في حدوده. ولا كذلك علم الكلام الذي يفتقر إلى عقل نير وقريحة وقادة وذكاء نافذ، ويحتاج منتحله إلى براعة وَلِسْنٍ ومران على المنطق ومقدماته ونتائجه وأقيسته وأشكاله. ولم كل هذه العدد؟ كل هذه العدد للمناظرات وما تستلزمه من إيراد ودفع وإفحام وإلزام. وأين العامة من هذا كله؟ لذلك لم يكن لها من حظ في هذا العلم إلّا معرفة أسماء بعض الفرق والانتصار لها انتصارًا تقليديًا، ولذلك كانت آثار التفريق الناشئة عن هذه المذاهب الكلامية قاصرة على طبقات مخصوصة، ولم تتغلغل في العامة كما تغلغلت آثار التصوف.

وقد انقرضت تلك الفرق وانقرض بانقراضها سبب جوهري من أسباب التفرق، بل مات بموتها شاغل طالما شغل طائفة من خيرة علماء المسلمين ببعضهم، وجعل بأسهم بينهم شديدًا، وألهاهم بما يضر عما ينفع.

تلاشت تلك الفرق ولم تبق إلّا أخبار معاركها الجدلية في كتب التاريخ، والا آراؤها المدونة في كتبها فتنة للضعفاء وتبصرة للحصفاء. ولم يبق من تلك الأسماء التي كونت قاموسًا في الأنساب إلّا اسمان يدوران في أفواه العامة وأشباه العامة ويستعملونهما في أغراض عامية وهما (أهل السنة والمعتزلة).

ومن المحزن أن دراسة علم التوحيد حتى في كلياتنا (الراقية) كالأزهر والزيتونة لا تزال جارية على تلك الطرائق، وفي تلك الكتب، ولا تزال تقرر فيها تلك الآراء، ولا تزال تذكر فيها أسماء تلك الفرق التي لم يبق لها وجود. ويستعرض سيدنا المدرس تلك

<<  <  ج: ص:  >  >>