للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الآراء ثم يدحضها ويقيمها ثم ينقضها. وتقتطع أوقات الطلبة المساكين في ذلك. ويا ضيعة الأعمار!

أما الشبهات التي يوردها كل يوم ملاحدة العصر ومبشرو المسيحية على الإسلام، ويفتنون بها العلماء فضلًا عن العوام، فإن كلياتنا (العلمية الدينية) ومدرسميها لا يعيرونها أدنى اهتمام، ولا يعمرون بها وقت الطلبة. فيا للفضيحة!

...

وإذا نحن وازنا بين ما أجداه علينا علم الكلام وبين ما خسرناه بسببه وجدنا الخسارة تربو على الربح. فتوحيد الله مقرر في القرآن بأجدى بيان وأكمل برهان. وصفاته لا يطمع طامع أن يأتي في إثباتها بأكمل مما أتى به القرآن. وطريقة القرآن في التنزيه أقوم طريقة، وقد جرى عليها الصحابة فكانوا أكمل الناس توحيدًا مع أنهم لا يعرفون الجوهر والعرض. وهل يبقى زمانين؟ ولا الكم ولا الكيف بمعانيها الفلسفية الدقيقة. وعلى هذا فما معنى إضاعة الوقت وإعنات النفس في معرفة هذا العلم المسمى بعلم الكلام.

ولو كان هذا العلم المستحدث ذا قواعد طبيعية لا تنقض، كقواعد الحساب أو الهندسة مثلًا، لخف ما يلقى الناس في تعلمه من عناء، ولكننا رأينا تلك القواعد تتهاوى في المناظرات القولية أو القلمية كفقاقيع الماء، فلا يكاد يبني الباني حتى ينبري له هادم ينقض ما بنى ويتبر ما علا.

فوا أسفاه على تلك الحملات العنيفة التي كانت جهادًا ولكن في غير عدو. ووالهفاه على ذلك النقع المثار وقد انجلى عن غير فتح ولا غنيمة. وواحسرتاه على ذلك الذكاء الذي كانت تكاد تشف له حجب الغيب، ذكاء أبى بكر الباقلاني وفخر الدين الرازي وأبي الهذيل وابن المعلم، وقد ضاع فيما لا تعود على الإسلام منه عائدة، ولا تنجرُّ له منه فائدة.

وإنك لتطالع تفسير الرازي مثلًا فتتلمح من جملته ذكاء يشع، وقريحة تتقد وألمعية تكاد تنتزع منك بنات صدرك، فتظن أن سيكشف لك عن الجهات المتصلة بنفسك من القرآن، ويجلي لك سنن الله في الأنفس والآفاق. وإذا بالظن يخيب والفال يكذب، إذ ترى تلك القوى مصروفة إلى جهة غير التي تريد. وترى الرجل وقد غلب على ذكائه وجرفته العادة التي تملكته إلى الآراء والعقليات وإثارة الشبهات. وترى ذلك الذهن العاتي يتخبط في مضائق هي دون قدر القرآن ودون قيمة ذلك الذهن، حتى ليسف فيزعم لك- مثلًا- أن أولي العلم في قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ}، هم أهل الاصول ...

<<  <  ج: ص:  >  >>