للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

المحافل الحاشدة في الشرقين هي فضائلها شائعة، ومفاخرها ذائعة، ومباخرها ضائعة، وأعمالي تمجيد لها ورفع لشأنها، وتنويه بنهضتها وتشريف "لجمعية علمائها"، وما الجزائر إلا جمعية العلماء، لولاها لكانت الجزائر مثل جزائر واق الواق اسمًا يجري على اللسان، ومسمّى معدومًا في الوجود، لا يُنكِر هذا إلا صبيٌّ أو غبيٌّ، أو عقل وراءه خبي.

أشهد لقد كنت ألقَى في أسفاري أنواعًا من التعب فلا يهوّنها عليّ ولا يغريني بالإقدام على غيرها إلا يقيني أنها مقلد في قيمة الجزائر وقيمة جمعية العلماء، وكنت ألقى من إخواني في العروبة والإسلام إقبالًا عليّ واحتفاءً بي على نسق من فضلهم وتكرّمهم، فلا يزدهيني من ذلك إلا أنه احتفاء بالجزائر وبجمعية العلماء، وسعدت بلقاء كثير من عظماء الشرق وعلمائه وأمرائه وقادة الرأي فيه، فما عددت ذلك إلا من سعادة الجزائر وجمعية العلماء، ووالله ما أنسانيهما تبدّل المناظر، وتنوّع الأشخاص، ولا لفتني عنهما تعاقب المحاسن على بصري، وتوارد معانيها على بصيرتي، بل كانتا دائمًا شغلَ خواطري، ونجوى سرائري، وطالما طرقتني منهما أطياف، كأنها أسياف، فأرتاع وألتاع، وأكاد أطير شوقًا، ثم يمسح ذلك كلّه عن نفسي أن في سبيلهما سكوني واضطرابي، ولو خرجت تاجرًا لكنت في الأخسرين صفقة، ولو خرجت متروّحًا لكنت كمن هجر الجام ومديره، والروض وغديره، إلى جفاة السَّفْر (٢)، وجفاء القفر.

...

أيها الوطن الحبيب:

رضيت من قسمة الله أن لم يجعلني أبًا لأبناء الصلب وأفلاذ القلب وحدهم، ولو خُلقتُ لهم لحبوت وأبَوْت (٣)، وعثرت في مصلحتهم وكبوت، ولصنعت لهم ما تصنع الطير لأفراخها ... بل جعلني أبًا لأبنائك كلهم، يلوذون من علمي بكنف رعاية، ويعوذون من حلمي بسور حماية، فأسوق ضالَّهم ليهتدي، وأحثّ مهتديهم ليزداد هداية.

ورضيت فوق الرضى بأبوّتك لي أن رضيت ببنوّتي لك، ويمينًا لو تبرّجت لي المواطن في حُللها، وتطامنت لي الجبال بقُللها، لتفتنني عنك لما رأيت لك عديلًا، ولا اتخذت بك بديلًا، وإذا كانت أوطان الإسلام كلها وطن المسلم بحكم الدين، فإن اختصاصك بالهوى والحب من حكم الفطرة السليمة، ولنا في رسول الله أسوة حسنة في حبّه لمكّة وحنينه إليها.


٢) السفر: المسافرون.
٣) أبوت أولادي: صنعت لهم ما يصنع الآباء لأبنائهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>