للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كل جزيرة قطعةً من الحُسن، وفيك الحُسنُ جميعُه، لذلك كنَّ مفردات وكنت جمعًا، فإذا قالوا: "الجزائر الخالدات" رجعنا فيك إلى توحيد الصفة وقلنا "الجزائر الخالدة"، وليس بمستنكر أن تُجمع الجزائر كلها في واحدة.

لن أنسى- يا أمّ- أنك كنت لي ماخِطة الغِرس (١)، وماشطة العِرس، فلا تنسي أني كنت لك من عهد التمائم إلى عهد العمائم، ما شغلت عنك إلا بك، ولا خرجت منك إلا عائدًا إليك، لا تنسي أنني ما زلت ألقى الأذى فيك لذيذًا، والعذاب في سبيلك عذبًا، والنصب في خدمتك راحة، والعقوق من بعض بنيك برًّا، والحياة في العمل لك سعادة، والموت في سبيلك شهادة، ولا تنسي أنني عشت غيظًا لعداك وشجًى في حلوقهم، وكدرًا لصفوهم، وأنني ما زلت أقارع الغاصبين لحقّك في ميدان. وأكافح العابثين بُحُرماتك في ميدان، وأعلّم الغافلين من أبنائك في ميدان، ثلاثة ميادين، استكفيتني فيها فكفيت، ورميت بي في جوانبها فأبليت، ولا منّة لي يا أمّ عليك، وإنما هي حقوق أوجبتها شرائع البر، قام بها الكرام، وخاس بعهدها اللئام.

خطت الأقدار في صحيفتي أن أفتح عيني عليك وأنت موثقة، فهل في غيب الأقدار أن أغمض عيني فيك وأنت مطلقة؟ وكتبت الأقدار عليّ أن لا أملك من أرضك شبرًا، فهل تكتب لي أن أحوز في ثراك قبرًا؟

...

لله في تقدير السنين أسرار، فبها تحسب الأعمار، وفيها تُؤتي الأشجار الثمار، وفيها يتجدد الحنين والادِّكَار، وفيها يهِيج الشوق بين المتجانسات فينشأ بين الفعل والانفعال وجود، ولقد غبتُ عن الجزائر سنةً وبعض السنة، فكنت أغالب الشوق فأغلبه، فلما قيل: هذا يوم ٧ مارس- وهو موفِّي سنة الفراق- هجم عليّ من الشوق ما لا يُغلب، فتمثّلتُ بقول الوزير ابن الخطيب السلماني:

وجاشت جنودُ البين والصبر والأسى ... عليّ فكان الصبر أضعفها جندا

غبت عن الجزائر بجسمي سنةً وبعض السنة، ولكنني ما غبت عنها بروحي وفكري دقيقة ولا بعض الدقيقة، وما عملت لغيرها عملًا ولا جزءًا من عمل، فلساني رطب بذكرها، وشخصي عنوان عليها ورمز إليها، وأحاديثي تعريف بها وإغلاءٌ لقيمتها، ومحاضراتي في


١) الغرس بكسر الغين: شيء من الجنين تمخطه القابلة، والعرس بالكسر: الزوجة، يريد أنه ولد فيها وتزوّج، والولادة والزواج هما بابا الحياة.

<<  <  ج: ص:  >  >>