مرّت عليّ وأنا في الجزائر عدة أعياد من السنوات الأخيرة التي صرح الشر فيها للعرب والمسلمين عن محضه فكنت ألقى تلك الأعياد بغير ما يلقاها به الناس، ألقاها بتجهّم اضطراري وانقباض نفسي وكان الرائي يراني وأنا معه وأراه وكأنه ليس معي، فقد كانت تظللني في العيد سحائب من الكآبة لحال قومي العرب وإخواني المسلمين وأنا كثير التفكير فيهم والاهتمام بهم والاغتمام من أجلهم، فأغبطهم تارةً لأنهم في راحة مما أنا فيه وأزدريهم حينًا لأنهم لم يكونوا عونًا لي على ما أنا فيه، وما أشبههم في الحالتين إلا بالغنم تُساق إلى الذبح وهي لاهية تخطف الكلأ من حافتي الطريق لأنها لا تدري ما يُراد بها.
وجاءت نكبة فلسطين فكانت في قلبي جرحًا على جرح وكانت الطامة والصاخة معًا وكانت مشغلة لفكري بأسبابها ومآسيها وعواقبها القريبة والبعيدة، فلا تصوّر لي الخواطر إلّا أشنع ما في تلك العواقب، وكأن أحزان السنة كلها كانت تتجمّع عَلَيّ في يوم العيد وكنت أغطّي باطن أمري بالتجمّل، فإذا عدمت المتنفس من الرجال والأعمال والأحوال رجعتُ إلى العيد الذي هو مثار أشجاني فجرّدت منه شخصًا أخاطبه وأناجيه وأشكوه وأشكو إليه وأسأله وأجيبه وأبثّه الشكاية من قومي غيظًا على القادرين وتأنيبًا للغادرين، حتى اجتمعت لي من ذلك صحائف مدوّنة نشرت القليل منها على الناس وطويت الكثير إلى حين. ثم رحلت عن الجزائر في السنة الماضية فكانت بيني وبين الأعياد هدنة عقد أوّلها العراق ومخايل الرجاء فيه وعقدت آخرها مكة ومخايل الرجاء في الله وهذا هو العيد الثالث يظفي فبماذا أستقبله؟
أنا الآن أشدّ تأثّرًا بنكبة فلسطين مني في الماضي.
فقد لمست يدي الجرح وهو بالدم يثعب، ورأت عَيْنايَ العربي وهو على البركان يلعب، وسمعت أذناي غراب البين وهو بالفراق ينعب، ثم سمعت أنين اللاجي وعذر المداجي وتفسير الأحاجي. فيا عيد أقبل غير نحس ولا سعيد، واذهب غير ذميم ولا حميد، وإن لم يجد حساب ولا أغنى عتاب، لك علينا حق التجلّة التي أوجبها الله لك شكرًا على إتمام العبادة لا على مألوف العادة، ودعنا معشر المنتظرين لهلالك المستعدّين لاستقبالك، نتحاسب أو نتعاتب، وإن لم يجد حساب ولا أغنى عتاب، ليس لك ولا لأمثالك من الأيام ذنب إنما أنت وهي قوارير تلوّنها أعمالنا وتلوّثها سيّئاتنا وآثامنا، فإذا لوّناك بالسواد أو لوّثناك بالشر فمعذرة وغفرًا، إن هي إلا مناظر تشهدها كلما أظللت وتراها كلما أطللت.
أيها العرب: ها هوذا عيد الفطر قد أقبل وكأني بكم تجرون فيه على عوائدكم وتنفقون المال بلا حساب على الحلل يرتديها أولادكم وعلى الطعام والشراب توفّرون منه حظ بطونكم، وكأني بكم تسيرون فيه على مأثوركم من اللهو واللعب وإرخاء الأعنّة لمطايا