للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في المجالس والأندية، ومن أعمالكم الجليلة في ميدان العلم، وما زلت أقرن هذه المعجزة بالتحدي، هذه المعجزة التي أظهرها الله على أيديكم، بل هذه المنقبة التي خصّكم الله بها، فما رأى الناس قبلكم أمة في مثل حالكم من الضعف والفقر والجهل والهوان تثب هذه الوثبة، بباعث من إيمانها، وتستيقظ فجأة على صوت الدعاة المخلصين من أبنائها فتبني نهضتها من أول يوم على أساس من الإسلام مكين، وحائط من العروبة متين، وعلى سبب من الحكمة رزين، وسند من العقل رصين، وتطوي العصور طيًا لتتصل بالقرآن فتتخذه دليلًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - فتتخذه إمامًا، وبالشرق في روحانيته النقية فتتخذه موئلًا، وبالتاريخ المحمدي في صحائفه الطاهرة فتتخذ منه مرشدًا. وما رأى الناس قبلكم أمة في مثل حالكم من ظلم الغريب، وجفاء القريب، وإضلال الهادي، وبغي العادي، ثم تُكوِّن في عشرين سنة من الحصا جبلًا شامخًا، ومن الأوشال بحرًا زاخرًا، وتبني بالفلس المقدّر، والعيش المقتّر، هذا العدد العديد من المدارس الضخمة ثم تتوّجها بهذا المعهد الفخم الذي تلوح عليه من مخايل عبد الحميد بن باديس سمات، وتهب عليه من روحه الطاهرة نسمات، ثم تهزّكم أريحية العرب، وسماح الإسلام، ونخوة الأجداد، فتكملون المفخرة بهذه الدار التي تجمع روعة الحرم إلى قوة الهرم.

أيها الإخوان الكرام:

إن لهذه الدار على قرب العهد من تشييدها لتاريخًا متصل الحلقات، ومن حلقاته التفكير والتقدير والرأي والتدبير، واليد واللسان، وان من عجائب الدهر تتابع هذه الحلقات بسرعة، وان أظهر صنع الله في هذا لباد، ولولا صنعه لما تمّ شيء من هذه الأعجوبة التي لم تستند على شيء من الوسائل المادية يوم تكوينها وإنما صحبها الإيمان والإرادة والعزيمة والحزم والتصميم، وهي وسائل ما اجتمعت في شيء إلا أتت بالعجائب وما تعاونت على شيء إلا أضفت عليه الوجود والخلود.

هذه الدار ذات تاريخ، بل أصبحت اليوم فاصلًا بين تاريخ وتاريخ. بين تاريخ مؤلف من حالة الطالب البائسة المضطربة التي كان عليها بالأمس، وبين تاريخه اليوم وقد أصبح شمله جميعًا، وحياته منظّمة، وأحواله مرتّبة، وسكنه نظيفًا، وستصبح هذه الدار تاريخًا قائمًا بنفسه، يوم يؤتي النظام والاطمئنان آثارهما في حياة التلميذ.

إن بدايتكم هذه وأنتم الضعفاء، هي نهاية الأقوياء ذوي الطول والحول والدولة والصولة والعراقة والأصالة في العلم وأسبابه، فما بدأوا في التفكير والاهتمام بحال التلميذ وإقراره فيما يناسب شرفه، إلا منذ عقود قليلة من السنين، وإذا كانت الغاية هي راحة طالب العلم، وتسهيل السبيل في طريقه إلى العلم، وتمهيد الوسائل له فإنهم لم يصلوا إلى تحقيق هذه الغاية إلا بعد مرور قرون على نهضتهم العلمية.

<<  <  ج: ص:  >  >>