للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يقولون في ترجمته: رحل ولقي الرجال. ولكن الرحلة في القديم كان لها غرض صحيح وهو استكمال العلم لا بدايته، فبعد أن يحصل الأندلسي- مثلًا- كل ما هو موجود في بلده من أنواع، ويستوعب الأخذ عن جميع علمائه تسمو نفسه إلى بقية من العلم غير موجودة، أو إلى التوسّع في الموجود منها فيرحل لذلك، ثم يرجع إلى وطنه بالمقلد، والعلم الجديد.

أما أبناء الجزائر الذين نكتب هذه الكلمة من أجلهم فإنهم يرحلون من الجزائر ويقطعون المراحل مشيًا على الأقدام في بعض الحالات عجزًا عن ثمن الركوب، كل ذلك ليدرسوا (الأجرومية) في الأزهر، ثم إذا وصلوا إلى مصر وضاقت بهم سبل المعيشة انقطعوا حتى عن الاجرومية وطلبوا العمل فلم يجدوه، لأن أهل الوطن أنفسهم يشكون البطالة، أو طلبهم العمل فلم يجدهم، لأنهم لا يحسنون عملًا فنيًا.

لا نصف صنيع هؤلاء بأنفسهم إلا بأنه غفلة واغترار وجهل بحقائق الأشياء، والجاهل يجب عليه أن يتعلم طريق العلم ووسائله قبل العلم، وأيسر وسيلة يستطيعها كل أحد هي الاستشارة، فما لهم لا يستشيرون؟ ولو أنهم استشاروا النصحاء العارفين لصدوهم عن هذا النوع من الهجرة، ولنصحوهم بتعلّم المبادئ في الجزائر أو في تونس وهي تكاد تكون قطعة من وطنهم، فإذا حصلوا كل ما في جامع الزيتونة كانت رحلة الراحل منهم إلى مصر أو غيرها معقولة مقبولة، وكانت الإعانة عليها واجبة وذات قيمة.

الواجب على أبناء الجزائر أن يتبصّروا في هذه القضية وأن يتدبّروا عواقبها، وأن يعرفوا - قبل كل شيء- أن سماء مصر لا تمطر الذهب والفضة ولا الورق النقدي، وأن مصر قامت بما فوق الواجب مع أبناء الأقطار العربية والإسلامية، وتساهلت حتى أدّاها التساهل إلى الفوضى، وأعانت بالكثير، ولكن فوضى الهجرة صيّره قليلًا غير مفيد، والإعانة التي لا تفيد هي خسارة مرتين.

إن قطع آلاف الأميال، وركوب المخاطر والأهوال، في سبيل الدراسة الابتدائية أمر لا يفعله عاقل ولا يجيزه، فهو سفه في الرأي وتبديد للقوة في غير منفعة، وهو سبّة للوطن الذي هاجر منه الطالب، لأنه شهادة على أنه لا علم فيه ولا تعليم، فليتدبّر هذا أبناؤنا المجازفون، فإذا زاد على ذلك تقدّم السن كان من أفحش الخطإ، فقد لاحظنا في جميع من رأينا أنهم جاوزوا العشرين من أعمارهم وفيهم ابن الثلاثين. وأمثال هؤلاء فاتهم وقت التحصيل المنظّم، ومتى يحصلون وهم في هذه السن؟ وكيف يحصلون وهم على هذه الحالة من البؤس؟ وكيف يطمئن الذهن للتحصيل، إذا كان العقل والجنب والبطن كلها غير مطمئنة ولا مستقرّة؟

لعلّ أبناءنا يحتجون اليوم بتلك الفلتات التي يسمعون بها من أن فلانًا هاجر إلى الأزهر وهو لا يملك فتيلًا ثم حصل وأصبح عالمًا، وفاتهم أن تلك فلتات كما سمّيناها فهي شذوذ

<<  <  ج: ص:  >  >>