للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أفعالنا ما نمنعهم منه بأقوالنا: ننهاهم عن الكذب ونكذب أمامهم الكذب الحريت، وننهاهم عن الرذائل جملة وتفصيلًا، ثم نخالفهم إلى ما ننهاهم عنه، فيأخذون الرذيلة عنا بالقدوة والتأسّي، ويحتقروننا لأننا قبحنا لهم الكذب بالقول ثم أشهدناهم بالعمل على أننا كاذبون.

إلى هؤلاء الشباب الوارثين لحسناتنا وسيآتنا، المهيئين لخيرنا وشرنا، الحاملين لخصائصنا وألواننا إلى مَن بعدهم من أبنائهم، المتبرمين هنا بحالة هم مقدمون عليها كرهًا، فقد كنا مثلهم شبابًا وسيصبحون مثلنا شيوخًا، وسيلقون من أبنائهم ما لقينا نحن منهم، وسيلقى منهم أبناؤهم ما لقوه هم منّا، جزاءً وفاقًا وقصاصًا عدلًا، وسنّة أجراها الواحد القهّار، وجرى بها الفلك الدوار- إلى هذا الجيل الذي عودتنا الحياة المدبِرة أن نشفق عليه، وعوّدته الحياة المقبِلة أن يشفق منا، أتوجه وإياه أعني وإليه أسوق الحديث، داعيًا له بما دعا له شوقي في قوله:

إن أسأنا لكم أو لم نُسئ ... نحن هلكى فلكم طول البقاء

متمنيًا له ما تمنّاه له شوقي في قوله:

هل يمدّ الله لي العيشَ، عَسَى ... أن أراكم في الفريق السعداء

لا أخالف شوقي إلّا في التخصيص فقد خاطب بهذا شباب النيل، وأنا أهتف بشباب العرب، وبشباب الإسلام، أهتِفُ بشباب العرب أن يرعوا حق العروبة وأن يكونوا أوفياء لها، وأن يعلموا أنها ليست جنسية تميز، ولا نسبة تعرف، وأنها ليست جلدة تسمّر أو تحمّر، ولا بلدة تعمر وتقفر، وأنها ليست جزيرة يحيط بها البحر ولا قلادة تحيط بالنحر، وأنها ليست متاعًا ممّا يرث الوارثون، ولا أرضًا مما يحرث الحارثون، وإنما هي خلال وخصال، وهمم تتشقّق عن فعال، وإنما هي بناء مآثر، وتشييد أمجاد ومحامد، وإنما هي مساع من الكرام إلى المكارم، ودواع من العظماء إلى العظائم، وإنما هي عزائم، لا تعرف الهزائم، وإنما هي عزّة وكرامة، وشدّة في الحفاظ وصرامة، وإنما هي طموح وجموح: طموح إلى منازل العزّ وجموح عن مواطن الذلّ، وإنما هي رجولة وبطولة، وأصالة وفحولة، وإنما هي طبع أصيل ورأي جليل، ولسان بالبيان بليل، وعقل على الحكمة دليل، فمجموع هؤلاء هو العروبة، وجامع هؤلاء هو العربي، وما عداه فهو تعللّ بباطل، وتعلق بضلال، وتخلق يكذبه الخلق، وخيانة للعروبة في اسمها وفي وسمها، وعقوق للأجداد، كأنما عناهم المعزي بقوله:

جَمالَ ذي الأرضِ كانوا في الحياة وهُمْ ... بَعْد المماتِ جَمالُ الكُتْبِ والسِّيَرِ

ثم أهتف بشباب الإسلام ليعلموا أن الإسلام ليس لفظًا تلوكه الألسنة المنفصلة عن القلوب، وتتناوله قوانين التعريف بموازينها الحرفية، وتقلّبه اشتقاقات اللغة على معانيها

<<  <  ج: ص:  >  >>