للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الوضعية فينزل به إلى المعاني الوضيعة من السلم إلى الاستسلام ... إلّا أن في الإسلام الشرعي نوعًا من معنى الإسلام اللغوي، ولكنه أرفع تلك المعاني وأعلاها، هو معنى تتقطع دونه الأفهام والأوهام، معنى لو طاف طائفه بعقول العرب أهل اللغة قبل الإسلام لَرفع هممهم عن عبادة الشجر والحجر، ولَسَما بهم حينما بُعث محمد - صلى الله عليه وسلم - عن الجدل بالباطل ليدحضوا به الحق: هو إسلام الوجه لله عنوانًا لإسلام القوى الباطنة له، هو المعنى الذي خالطت بشاشته قلب نبي التوحيد إبراهيم فقال: أسلمتُ وجهي، وتذوقته بلقيس حين هداها الله فقالت: وأسلمت، ألا وإن في الاستسلام نوعًا من المعاني لم يتخيله وضع ولا عرف، ولم يتداوله نقل ولا استعمال حتى جاء محمد بالهدى ودين الحق، ونقل اللغة من طور إلى طور، هو استسلام الجوارح- وسلطانها القلب- لله ولعظمته وقدرته وعلمه حتى توحّده وحده، وتعبده وحده، وتدعوه في النائبات وحده، وتنيب إليه وحده، وتذعن إلى سلطانه وحده، وتخشاه وحده، فتستقل عن الأغيار بقدر ذلك الاستسلام إليه، وتتحرّر بقدر العبودية له، وتتوحّد قواها بقدر إفراده بالألوهية، وتعتزّ بقدر التذلّل لعظموته، وتنجح في الحياة بقدر اتباعها لسننه، وتصفو من الكدرات الحيوانية بقدر اتّصالها به، وتتزكى سرائرها بقدر إيمانها به، وتبعد عن الشرور والآثام بقدر قربها منه، ثم تسود الكائنات بأمره، وتخضع الكون لسلطانها بسلطانه، وتكشف أسرار الوجود بصدق التأمّل في آياته والتفكر في بدائع ملكوته.

هذه بعض معاني هذا الدين العظيم دين الله السماوي الذي بلّغه محمد - صلى الله عليه وسلم - وفسّره بأقواله وشرحه بأفعاله، ووسعته لغة العرب، وحمله إلينا الأمناء الهداة، وعصمه القرآن آية الله الكبرى ومعجزة الدهر الخالدة وكتاب الكون الأبدي، وكنز الحكمة المعروض على العقول والأفكار وعلى الأسماع والأنظار لتأخذ منه كل جارحة حظها من الغذاء.

أيها الشباب: شاع بين الناس مبدأ فطري توارد عليه المحدثون والقدماء، ونصره الحس، وهو أن الكبير قريب من الموت يغذّ إليه السير مكرهًا كمختار وعجلان كمتريث، ومن ثم فهو قريب من الله، والقرب من الله مدعاة عند العاقل المتأله إلى الاستعداد لِلقائه، والتزوّد للدار الآخرة بأهبها وليوم الفاقة العظمى بالأعمال الصالحة، وقد قال شاعر حكيم يصوّر هذا القرب:

وإن امرءًا قد سار خمسين حجّة ... إلى منهل من وِرْدِهِ لَقَرِيبُ

تواضعوا على هذا وأكثروا فيه القول، وأداروا عليه النصائح والمواعظ للجماعات المتدينة، يزجونها للشيوخ المسرعين إلى الموت، الذين طووا المراحل ودنوا من الساحل- حتى أوهموا الشبّان أن الشباب عصمة لهم من الموت، وأنتج لهم القياس الفاسد أنهم بعيدون عن الله، ولا يبعد في نظر المتوسم في غرائب النفوس أن يكون تخصيص الشيوخ

<<  <  ج: ص:  >  >>