للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأحداث وبالبشر مع عبوس الزمن، وأصبحوا يلقون أعيادهم بهمم فاترة وحس بليد وشعور بارد وأَسِرَّة عابسة وكأنها عملية تجارية تتبع الخصب والجدب وتتأثر بالعسر واليسر والنفاق والكساد، لا صبغة روحية ذاتية تؤثر ولا تتأثر. ولولا نفحات فطرية تهب على نفوس الصغار القريبين من الفطرة فتتجلى فيها بعض معاني العيد فتطفح بشرًا على وجوههم وتنبعث فرحًا في شمائلهم ونشاطًا في حركاتهم واجتماعًا على المحبّة في زمرهم واتجاهًا إلى المبهجات في مجتمعاتهم، لولا ذلك لكانت المآتم أعمر بالحركة وأدلّ على الحياة من أعيادنا.

...

العادات محكمة ... كلمة يقولها فلاسفة الاجتماع وفقهاء التشريع، ويريدون فيها أن للعادات الثابتة الصالحة دخلًا في تكييف أحكام المعاملات وقوانين الاجتماع البشري بحيث تبلغ من القوة والاستمرار أن تصبح مرجعًا للقضاة في أحكامهم على ما يشجر بين الناس من خلاف في أسباب معايشهم، ومرجعًا للباحثين في أحكامهم على الظواهر الاجتماعية في الشعوب، ويقيّد الفقهاء إطلاق العادة بأن تكون محققة لمصلحة أو دافعة لمفسدة وبأن لا تنقض نصًا شرعيًا ولا تعاند حكمًا إجماعيًا، فإن لم تكن كذلك كانت باطلة مردودة ونحن نقول: إن عاداتنا مع سخافتها، أصبحت حاكمة يرجع الناس إليها عن عقولهم وأفكارهم ومصالحهم وعن دينهم أيضًا.

لو أوتينا الرشد لكان لنا من أعيادنا الدينية الجليلة مواقف لتصحيح الانتساب، ومواقيت لتصفية الحساب، ولعلمنا أن نفس المؤمن تتّسع للدين والدنيا، وأن وجودها مرتبط بعضه ببعضه، وأن وجود أحدهما رهن بوجود الآخر، وأن كمال أحدهما كفيل بكمال الآخر، وأن طروق الضعف لأحدهما مؤذن بطروقه للآخر. ويوم كان الدين كاملًا في النفوس كانت الدنيا مملوكة لتلك النفوس، ويوم أضعنا الدين أضعنا الدنيا. فلا يذهب الخرّاصون مذاهبهم في العلل والأسباب؛ فهم بعض تلك الأسباب، ولا يتعبوا أنفسهم في "الوصفات" لدواء أمراضنا فهم بعض أمراضنا، ونحن أعرف بدائنا ودوائنا. ومن آداب النبوّة فينا "ائحِمْيَةُ رَأْسُ الدَّوَاءِ" فأنجع الأدوية لأدوائنا الحمية ... الحمية من المطامع والشهوات فهي التي أفسدت علينا ديننا ودنيانا، وإذا فعلت هذه الحمية فعلها خفّت الأخلاط فخفّت الأغلاط، فتجدد النشاط، فهدينا إلى سواء الصراط.

الحمية رأس الدواء والحمية لا تفتقر إلى إرشاد طبيب. فلنخرس هذه الببغاوات المرددة لفرية أعداء الإسلام بأن الداء آتٍ من الإسلام وأن الدواء في التحلّل منه، وليربع كل ناعق من هؤلاء على خلعه، وليعلم أنه فينا كالضرس المؤوف كل الخير في قلعه.

<<  <  ج: ص:  >  >>