للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأشياء بالوزن والمقارنة. إن هذه النقائص تبتدئ في الفرد فلا يظهر أثرها، ثم تنتقل إلى المجموعات فتبرز آثارها السيّئة، فتكون بلاء وشرًا وخضوعًا واستسلامًا.

ولقد مرّت من تاريخ الإسلام حقب صالحة كان السلطان فيها للفضيلة، فصحّت الموازين، وعرفت القيم، فكان الواحد من أولئك القوم يرى من أبلغ السب أن تمدحه بما ليس فيه، ثم هجمت علينا الرذائل يقودها الغرور والأنانية والمبالغة فأفسدت علينا تربيتنا النفسية، وجرّ شيء إلى أشياء حتى انتهينا إلى هذا الانحطاط الخلقي الذي نرى آثاره، ونتجرعّ مرارته.

الجهاد- أيها المسلمون- لفظ قليل، تحته معنى جليل. هو صرف القوى الروحية والعقلية والفكرية، تظاهرها القوى المادية، إلى تحقيق غرض مما ينفع الناس؛ ويتفاوت شرف الجهاد بتفاوت ذلك الغرض في النفع، فإذا لم يكن للجهاد غاية ولم يكن فيه نفع كان جهدًا ضائعًا وسعيًا عقيمًا، أما إذا كان وصفًا تطلقه الألسنة كما هو واقع في زماننا هذا فهو نفاق يصطنعه الطامعون، وتزوير يتعلل به الفارغون.

وشوقي يقول: إذا كثر الشعراء قلّ الشعر، ونقول على وزنه: إذا كثر المجاهدون قل الجهاد.

تكررت في النصوص القرآنية كلمة "الجهاد بالنفس" في معرض الأوامر التكليفية. والأوامر الدينية بمعانيها الكاملة إنما تتوجّه إلى أصحاب النفوس الكاملة التي اطمأنت للإيمان بالله، والإيقان بالحق الذي يدعو إليه، والرضا بأحكامه الدينية والقدرية. وجعل الحياة المحدودة مطية للحياة الخالدة. وما وصل أصحاب هذه النفوس إلى هذه الدرجة من الكمال إلا بعد جهاد في النفس، هيّأها للجهاد بالنفس ثم دفعها إليه.

فأعلى مراتب الجهاد وأصله الذي تتفرّع منه فروعه هو الجهاد في النفس حتى تستقيم على صراط الحق والفضيلة، وتستعدّ لما بعد ذلك من أنواع الجهاد الخارج عن النفس. والنفس البشرية كسائر الكائنات الحية يجب أن تتعاهد بالتربية الصالحة، وتراض على الفضائل والكمالات وإن شقّت، حتى ترجح قابليتها للخير على قابلية الشر، وكل هذا يفتقر إلى جهود، فهو جهاد فيه كل خصائص الجهاد بمعناه الخاص الضيّق، ويزيد عليه بأنه أصله وأساسه، وقد وردت الآثار بتسميته "الجهاد الأكبر". والمعلم والمربي لا يغنيان في هذا الباب ما يغني صاحب النفس، فهو أقدر على كبح جماحها، ومراقبة دخائلها، وضبط أنفاسها، وتنظيم خواطرها، وقمع نزعاتها الباطلة وحظوظها السافلة ونزواتها الشهوانية، وإفاضة النور المبدّد للظلام في جوانبها.

<<  <  ج: ص:  >  >>