للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أيها المسلمون:

إننا لا نصدق الجهاد في عدوّنا الخارجي إلا إذا صدقنا- قبل ذلك وتوطئة لذلك- الجهاد في نفوسنا التي بين جنوبنا، جهادًا يصفي أكدارها، ويطهّرها من المطامع الدنية والأغراض السخيفة، والشهوات الحيوانية، حتى إذا لقينا العدو الخارجي لقيناه بنفوس مطمئنة، وبصائر مستنيرة، وعزائم مصمّمة، وقلوب متّحدة على غاية واحدة يسوقها سائق نفساني واحد قبل سائق العلم والنظام، وتدفعها قوة نفسية واحدة قبل دافع المادة والآلة. إن النظام والآلة والعلم كلها مكملات تأتي بعد إعداد النفوس.

وإننا لا ننتصر على العدو الخارجي حتى ننتصر على العدو الداخلي وهو نفوسنا، فلنبدأ بها، فمن سنّة القتال {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ}.

الطمع وحب الجاه والغرور والحسد والأنانية والبغضاء والحقد والبخل ... كلها نقائص في نفوسنا يجب أن نطهرها منها، وكلها مداخل لعدوّنا يأتينا منها، فيجب أن نسدّها عليه، ولهي- والله- أضرّ علينا من ثغورنا المفتوحة في وجه العدو.

إن أعداءنا الذين ملكوا رقابنا واحتلّوا أوطاننا وسامونا الذلة والهوان واستعبدونا شر استعباد، إنما استعلوا بأخلاقهم القوية على أخلاقنا الضعيفة، ثم استعانوا بنا علينا، فمتى طلبوا خائنًا لوطنه منا وجدوا العشرات، ومتى التمسوا جاسوسًا يكشف لهم عن أسرارنا ويدلهم على عوراتنا وجدوا المئات، ومتى التمسوا ناعقًا بالفرقة فينا أو ناشرًا للخلاف بيننا وجدوا الآلاف، ومتى أرادوا حاكمًا منّا على أن يسمع لهم ويطيع ويبيعهم مصالح بلاده وجدوه فوق ما يريدون، وما ذلك إلا لأن نفوسنا أنهكتها الرذائل وتحيفتها النقائص.

أيها المسلمون:

هذا شهر رمضان وهو المدرسة الإلهية التي تعلم الجهاد في النفس، وهو الميدان الذي تجري فيه التمرينات القاسية والإعداد الكامل والامتحان الشامل، فإما نجاح في جهاد النفس يخرج صاحبه بشهادة "قوة الإرادة" و "صدق العزيمة"، وإما إخفاق يحمل صاحبه شارة العبودية والهزيمة.

إن قوة الإرادة هي التي ملكت زمام العالم فيما ترون وتسمعون، وإن قوي الإرادة هو الذي لا يدع المجال لشهوات النفس وملذاتها الزائلة أن تنزل به عن مقامات العزة والسيادة والشرف، إلى مواطن الذل والعبودية والضعة.

وإن صوم رمضان جهاد أي جهاد في النفس التي هي مصدر الملكات كلها، لأنه هجر للشهوات المستولية على البطون والفروج والألسنة، وقمع لأضرى الغرائز الحيوانية، وترويض على الإحسان والبر والرحمة، واشتراكية سلبية بين الأغنياء والفقراء في أخصّ

<<  <  ج: ص:  >  >>