للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خصائص الفقر وهو الجوع، وتجويع جبري يذوق به الناعم طعم الخشونة، والواجد طعم العدم، والمبطان ألم الجوع، ليعرف من هذا الدرس العملي السنوي ما يقاسيه الجياع الطاوون. ولو أن مواعظ الوغاظ كلها سكبت في أذن الغني المنعم الذي لم يجع في حياته، واصفة له الجوع وآلامه وما يلقاه الجائع المحروم من ذلك، لما بلغت من نفسه عشر ما تبلغه جوعة يوم طويل، لأن كلام الوغاظ مهما يبلغ من التأثير لا يَعْدُ أن يكون تصويرًا ينتج التصوّر، أما الجوع الحقيقي فإنه تطبيق وتصديق، ومن لم يذق لم يعرف.

ليس لله حاجة في أن ندع الطعام والشراب في هذا الشهر وإنما له في ذلك حكمة عالية، وهي أن نجاهد أنفسنا ونروّضها على تحمّل المكاره، ونرغمها بهجر شهواتها المألوفة وقمع نزواتها الطاغية لترقى من كثافة المادة إلى لطافة الروح، وأن نقوّي بذلك إرادتنا في شهر لنستعملها قوية في جميع الشهور.

إن الصوم يقوّي الروحانية ويغذّي الفضائل ويشدّ العزائم، ويغري الفكر بالسداد والإصابة، ويربّي الإرادات على الحزم والتصميم. وإن حياتكم اليوم حرب لا تنتصر فيها إلا الأخلاق المتينة، فاجعلوا من رمضان ميدانًا زمنيًا للتدريب على المغالبة بالأخلاق تنتصروا على عدوّكم، فتخرجوا هيبته من قلوبكم، ووسوسته من صدوركم، وجيوشه من بلادكم.

إن عدوّكم يعتمد على متانة الأخلاق قبل اعتماده على الحديد والنار، فأعدّوا له أخلاقًا أمتن تفلوا حديده وتطفئوا ناره.

إن عبيد الشهوات لا يتحررون أبدًا، فلا تصدّقوا أن من تغلبه شهواته يستطيع أن يغلب عدوًا في موقف.

ابدأوا بتحرير أنفسكم من نفوسكم وشهواتها ورذائلها، فإذا انتصرتم في هذا الميدان فأنتم منتصرون في كل ميدان.

<<  <  ج: ص:  >  >>