للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإفهامه أن الأيام دول وأن من سار على الدرب وصل، بل نرى أكثرهم يتعمّد إضلالنا في تعليل الأشياء، كي لا يقف المريض على حقيقة دائه فيغفل مغترًا، أو يعالج داءه بداء أضرّ، أو يضع الدواء في غير موضعه، وقد نرى منهم من ينتهي من بحثه بنتيجة وهو أن سبب انحطاط المسلمين هو الإسلام نفسه ... وأن من يستطب لدائه بإشارة عدوّه لحقيق بأن يسمع مثل هذه النصيحة ...

أما الباحثون في أحوال المسلمين من المسلمين فهم ينقسمون إلى فريقين- بعد اتفاقهم على أن الجسم الإسلامي مريض وأن مرضه عضال- فريق منهم هدي إلى الحق فعرف أن الجسم الإسلامي لا مطمع في شفائه إلا إذا عولج بالأشفية القديمة التي صحّ بها جسم سلفه، وغذي بالأغذية الصالحة التي قوي عليها سلفه، وذلك أنه أقام الدين فاستقامت له الدنيا، وانقاد إلى الله فانقاد له عباد الله، وأخذ كتاب الله بقوة، فمشى على نوره إلى السعادة في الدارين، وأرشده إلى أن سعادة الدنيا عز وسلطان، وعدل وإحسان، وأن سعادة الآخرة حياة لا نصب فيها ولا نهاية، واطمئنان لا خوف معه ولا كدر في أثنائه، ورضوان من الله أكبر.

وفريق ضلّ عن الحق في الدواء، لأنه ضلّ قبل ذلك في تشخيص الداء، وضلّ من قبل ذلك في طريقة البحث فتلقّاها من أعداء الإسلام زائغة ملتوية، وضلّ من قبل أولئك في أسلوب التفكير، فهو يفكّر بعقل ملتاث بلوثات هذه الحضارة الخاطئة الكاذبة المستمدّة من أصول الاستعمار الذي يسقي الأقربين ما يرويهم، ويغذي الأبعدين بما يرديهم، ثم يجتثهم من أصولهم ولا يلحقهم بأصوله، ويتركهم متعلقين بأسباب هذه الحضارة مفتونين بها، مهجورين منها، وقل ما شئت في العاشق المهجور، الذي لا يملك من أسباب الحب إلا القشور، ولا يملك من أسباب الوصل شيئًا. وقد علمنا من سنن الحب أن أعلاه ما كانت معه كبرياء تزع، واعتداد بالنفس يأخذ ويدع، وقوّتان إحداهما تدلل، والأخرى تذلل، أما هؤلاء العشاق المتيّمون بحضارة أوربا وعلومها وتهاويلها فقد فقدوا الشخصية التي تحفظ التوازن في ميدان العشق وتحفظ لصاحبها خط الرجوع.

هذا الفريق المزوّر على الإسلام، الذي لا صلة له به إلا بما لا كسب له فيه كاسمه ولقبه، يرى أنه لا نجاة للمسلمين إلا بالانسلاخ عن ماضيهم ودينهم، والانغماس في الحضارة الغربية ومقتضياتها من غير قيد ولا تحفظ، وهو يعمل لهذا جاهدًا، يُسِرُّهُ المسر كيدًا، ويعلنه المعلن وقاحة، وانك لتعرف ذلك منهم في لحن القول، وفي مظاهر العمل، وفي إدارة الكلام على أنحاء معينة، وفي البداوات الخاصة، وفي اللفتات العامة، حتى لتعرفه في أسباب معيشتهم الشخصية، ولكنهم يتناقضون ويتهافتون، فيبتدئون من حيث انتهى سادتهم، فسادتهم يرون أن اللعب إنما يحلو بعد الجد، وأن القشور إنما يلتفت إليها بعد تحصيل اللباب، وان

<<  <  ج: ص:  >  >>