للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الكماليات تأتي بعد الضروريات، وأن الوقت رأس مال لا يجوز تبديده في غير نفع، ولكن هذه الطائفة منا تفعل عكس ذلك كله وتختصر الطريق إلى اللهو، لأنه يروي شهواتها، وإلى الكماليات والمظاهر لأن لها بريقًا هو حظ العين وان لم يكن للعقل منه شيء، وأن عصارة رأيهم في علاج حالة المسلمين تترجم بجملة واحدة، هي: أن النجاة في الغرق.

هؤلاء الدارسون لعلل المسلمين منهم هم علة علل المسلمين، وهم أنكى فيهم من المستعمرين الحقيقيين، فلقد كان دهاة الاستعمار في القرن الماضي يباشرون الشعوب الإسلامية كفاحًا ووجهًا لوجه، صراعًا في الحرب، وحكمًا في السلم، فيمارسون منها خصمًا شديد المراس، قوي الأسر، متين الأخلاق، فلم ينالوا منها إلا ما تناله القوة من الضعف، وهو محصور في التسلّط على الماديات، أما القلوب والعقول والعقائد والاعتزاز بالقوى والخصائص فلم تستطع أن تخضعها، ولم يستطع سلطانهم أن يمتدّ إليها، وهي عناصر المقاومة، المدّخرة ليوم المقاومة، ولن تجد فيما ترى وما تقرأ أمة قاومت الغاصب فدحرته ولو بعد حين إلا لأن هذه العناصر بقيت فيها سليمة قوية وبقيت هي عليها محافظة، ولكن أولئك الدهاة أتونا من جهات أخرى فهادنونا على دخن، وحبّبوا إلينا مدنيتهم من جهاتها القوية، ثم أعشونا ببريقها وابتلونا بما يلائم النفوس الضعيفة الحيوانية من شهواتها، وقالوا: إن وراء هذه المدنية علمًا هو أساسها، وأن وراء العلم ما وراءه من سعادة، وفتحوا لناشئتنا أبوابًا أمامية يدخلون منها، وأبوابًا خلفية يخرجون منها إلى عالم غير عالمهم الأصلي، وجاءت البلايا تزحف، فنقلتها تلك الناشئة تجري ركضًا، ودعت الكأس الأولى إلى ما بعدها وأصبحنا نتنافس في تقديم هذا القربان من ناشئتنا للاستعمار، وما زدنا بسفهنا على أن جهّزنا له جيشًا من أبنائنا يقتل فيه خصائصنا وروحانيتنا، ليقاتلنا به، وليوليه ما عجز عنه لصعوبة مراسنا وشدة احتراسنا، وليرجع إلى أهليه مملوء النفس باحترام أستاذه، مصمّم العزم على التمكين له، وقد كنّا لا نحترمه ولا نصادقه ولا نصافيه ولا ندمث له موضع الإقامة.

ما هو موقع الغلط في أبنائنا؟ انهم بتعلّمهم في الغرب، بلغة الغرب وبلباسهم لباس الغرب، وانتحالهم رسومه في الأكل والشرب، ظنّوا انهم أصبحوا كالغربيين، فانسلخوا في مظاهرهم ومخابرهم عن خصائصهم الأصلية الموروثة، فخسروها ولم يربحوا شيئًا، إذن لم يقع في تقديرهم ان جلّ الأحوال التي قلّدوا فيها الأوروبي هي ألوان إضافية اصطبغ بها بعد أن استكمل وسائل عزّه وقوّته، فلا تحسن في العين، ولا ترجح في الوزن إلا ممن وصل إلى درجته، وقطع المراحل التي قطعها في الحياة، وأنهم ظنّوا غلطًا في الفهم أن هذه الحضارة غربية، وأخطأوا فإن الحضارات ليست شرقية ولا غربية، وإنما هي تراث إنساني متداول بين الأمم تتعاقب عليه فيزيد فيه بعضها، وينقص منه بعضها، ويبتكر بعضها بعض الفروع فينسب إليه، ويلونها بعضهم بألوان ثابتة فتبقى شاهدة له حتى تضمحلّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>