وقع هذا كله في أسبوعين وكأن القوم كانوا فيه على تواطؤ مع تباعد الديار، فقلت: أتواصوا به أم هم قوم مخلصون؟ جمع بينهم التقدير لهذه الصحيفة المجاهدة فعز عليهم أن تخلو من قلم عرف بها وعرفت به، ولم يزل اسم صاحبه في صدرها يلوح للأعين كباقي الوشم في ظاهر اليد.
إن هذا الإجماع العجيب على لومي ألجأني إلى كثرة المعاذير، والمعاذير إذا كثرت أصبحت كبعض هذه الأدوية الكيماوية التي تبطل خاصيتها بالتعوّد، وقد أصبحت لكثرة ما اعتذرت أشعر كأن أعذاري منتحلة، وإن كانت قائمة بي وقائمة حولي، وأهمها عجزي عن الكتابة بمعناها الصناعي، أعني تحريك اليد بالقلم على القرطاس، فقد أصبح هذا أشق شيء أعانيه بسبب هبوط عام في قواي الجسمية، والبصر إلى كلال، والهمة إلى خمود، وتلك الذاكرة الواعية الصيود أضحت (كشنة خرقاء واهية الكلى) تضيع أكثر مما تمسك، ولم أتعوّد الإملاء فأملي، وطالما حاولت فلم آت بشيء، والعادة التي ملكتني هي أن قريحتي لا تجود بشيء إلا إذا وضعت سن القلم على القرطاس، فهنالك تنثال شآبيب القول ولكل امرئ ما تعوّد.
طال هذا الهجر مني لـ «البصائر» ولكنه لم يثمر ثمرة الهجر الطويل وهي النسيان، فلا أنا نسيت «البصائر»، وإن بي من الحنين إليها ما لا أجده لأقرب الأشياء إلى قلبي، ولا القرّاء نسوني، وإنني لألقى من عتابهم البَرْح الذي لم تلطف منه المعاذير، وإن كانت حقًا وكانت واقعًا وكانت حرية بالقبول.
...
إن إخوان العشرة والنشأة والعمل والتجربة يسرفون في اللوم إلى حد التجنّي، لأنهم يعتقدون أن الكتابة لا تسهل لأحد مثل ما تسهل لي ولا تؤاتي أحدًا مؤاتاتها لي والمادة من اللغة والفكر والطبع والمواضيع في نظرهم موفّرة لدي، وأكثرهم يستدلّ على هذا بسهولة الكلام علي وتأتيه وانقياده في المحاضرات الطويلة المرتجلة والدروس العلمية، ويقولون ان تلك المحاضرات والدروس لو وجدت من يكتبها كما تلقى لكانت مقالات أو كتبًا لا تحتاج إلى تنقيح ولا إلى إعادة نظر، وهم مخطئون في هذا الحكم لأنهم يتناولونه بميزان غير قار، فإن الحالات التي يكون معها التأتى والانقياد والاسلاس هي حالات نفسية وأصباغ وجدانية تخصّ الكاتب أو الخطيب وليس الناس فيها بمتساوين ولا القياس فيها بمطرد، وعن نفسي أتحدث، فإنني أجد من السهولة ومؤاتاة الكلام في مواقف الخطابة ما لا أجده في مواضيع الكتابة، ثم جاءت العادة والمران فأحكما ذلك في طبعي، ومردّ ذلك في نفسي وفي حكمي