للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلى أنني أجدني في الخطابة مأخوذا بالمغافصة وهي لا تدع المجال للروية والتحكيك وعرض الأساليب واختيار أحسنها، وقد يعين المرتجل على الارتجال شعوره بأن الارتجال مصحوب بالعذر، وأن صور الكلام وألفاظه أعراض تنقضي فلا يستطيع السامع أن يحاسب على دقائقها، ولا تبقى من المحاضرة إلا الصورة الكلية المجملة، وليست الكتابة كذلك.

ومن عيوبي التي لازمتني من الصغر أنني حين أكتب تحفل شعاب فكري بمعان في الموضوع الواحد، وأريد تصويرها فتنثال على القلم صور متعددة من التراكيب والألفاظ ويحملني الافتتان بالكثير منها على تدوينه، وأجد نفسي بين صور كثيرة للمعنى الواحد أو للمعاني المتقاربة، ويوزّع إعجابي بها ما يوزّع الحنان على الأبناء المتعددين، وألقى العناء في ترجيح واحد منها. ثم أرجح بدافع يخضع للقواعد المحكمة بين الناس، وقد يكون في الصور التي أطرحها ما هو أبلغ وأوعب للموضوع وأرضى للقرّاء ولكن هذا عيبي، وقد اعترفت به وهو بعض السر في التفاوت الذي يدركه القرّاء في أسلوبي، وما أريد أن أخرج من هذا بعذر وإنما أريد أن أردّ به زعم الزاعمين أن الكتابة ميسّرة لقلمي، وأقول ان الكتابة أصعب علي بكثير، وإذا كانت الركية البكية متعبة للماتح بنزورها، فالجزور متعبة له بثرورها.

أيها اللائمون: لا هجر ولا قلى قبل اليوم، ولا لوم ولا عتاب- إن شاء الله- بعد اليوم، فإن كان ثمة هجر فهو هجر بلا سلو، وكيف أسلو «البصائر»، وقد كانت سلواي في المحن، وميداني في قراع المستعمرين والمتّجرين بالدين. وكانت سلاحي في الحملة على من أضاعوا فلسطين، وكانت مجلى حجّتي في جدال الظالمين للعربية والدين، وكانت مشرق النور الذي فجّرته من النصائح على أبنائي الطلبة والمعلّمين، وكانت الحلبة التي سبقت فيها الكتاب في قضايا العرب أجمعين.

وبعد، فإنني أشكر لإخواني العاتبين أن عتبهم كان سببًا في أوبة من جوبة، وتوبة من حوبة، وكم جرّ العتاب إلى متاب، وحسن مآب.

<<  <  ج: ص:  >  >>