للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شدة المؤمن الموقن وغلو الجاد المتقصي، وتعصّب الدارس الذي يقطع أقصى مراحل التفكير وأقساها، حتى إذا خلصت له الفكرة من شوائب الشك قذف بها في الناس وحامى دونها وتعصّب لها، ليكون التعصّب نصيرًا وشاهدًا عليها، فالتعصّب للفكرة عند هذا الصنف من المفكرين ليس تعصّبًا إلا في مظهره، أما حقيقته فهو توكيد معنوي للفكرة وذود عنها وتمكين لها، وما أكثر جنايات الأسماء على الحقائق.

ومعرفة الأستاذ الورتلاني لا تتم إلا بمعرفة نشأته وتربيته الأولى، فقد نشأ على مقربة من الفطرة السليمة وتربّى تربية دينية يتعاهدها المربي من والدين ومعلّمين بالمحاسبة على الصغيرة والكبيرة والمناقشة في الجليلة والحقيرة، فأيفع وشبّ مرتاض الطبع على المحاسبة والمناقشة والاهتمام والجد مع توهّج الإحساس وإشراق الروح وسموّ الغاية، يعاون ذلك كله ذكاء متوقّد وبديهة مطاوعة في مجالات القول ولسان كالسيف المأثور إذا لاقى الضريبة صمم، وما زالت تلوح على تفكيره ورأيه آثار من تلك التربية يعرفها من يعرفها وينكرها من يجهلها.

والأستاذ الورتلاني إنساني النزعة ثم إسلاميها، ثم عربيها، ثم جزائريها، تتزاوج هذه النزعات في نفسه من غير أن تتغاير ولا أن تتضارر، وهو يحسن التأليف بينها ويلبس كل واحدة لبوسها ويبرزها في زمانها ومكانها فلا تتناقض ولا تتعاند، ولكن أبينها سمة هي النزعة الإسلامية، فهي التي تستبدّ بمعظم تفكيره ثم تأتي النزعة العربية، فله في كل قضية من قضايا المسلمين رأي، وله في كل حدث من أحداث العرب حكم، وله في كل جو من أجواء زمنه متنفّس، ولكن آفاته التي أضاعت على الجمهور القارئ الاستفادة من آرائه وأحكامه أنه لم يدوّنها خصوصًا في هذه الحقبة التي اختلّ فيها استقراره وامتحن فيها بما يمتحن به الأحرار، وقد وقَفْتُ بحكم الصلة الطبيعية الوثيقة بيني وبينه على عدة آراء له مدوّنة في قضايا العرب الخاصة وقضايا المسلمين العامة أصاب في معظمها وقرطس وربط المعلولات بعللها وكشف عن خبايا لا يتأتى الكشف عنها إلا للأقل من القليل من رجالنا، فألححت عليه أن ينشرها على الناس، مع توسّع في بعضها بالشرح والتحليل، ما دام للتاريخ عند كل مفكّر ذمام، وقد وعد بنشر ما تسمح الظروف العامة بنشره ويسمح له وقته الخاص بإعادة النظر فيه وتقويم كل أسلوبه، أما مذكراته في الأحداث العربية فهو يتربّص بها ساحل الأمان واعتدال الزمان ...

...

من أمتع ما كتب الأستاذ الورتلاني رسالة وجّهها إلى حكومتي باكستان وأندونيسيا يحثهما على إقامة الدستور الإسلامي ويشرح لهما أصوله واضطلاعه بالحياة السعيدة لتكونا

<<  <  ج: ص:  >  >>