للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غير أن هذا الوصف الذاتي لجمعية العلماء اشتهر حتى خفي، وعلم حتى كاد يُجهل، وبدأ بعض أبناء هذا الجيل المرشّح للوراثة يغفل عنه أو يتغافل، كما يغفل الانسان عن كونه انسانًا فيتردّى في الحيوانية، ويكون سبب الغفلة عن الحقيقة هو الحقيقة نفسها، ومكّن لغفلة هؤلاء أو تغافلهم عدة عوارض زمنية، منها أنهم من جيل مخضرم لم يتخرّج كله في تربيته وسلوكه وعلمه على أيدي رجال جمعية العلماء، ومنها افتتان هذا الجيل من أبناء الأمة العربية بكلمات: العلم، والتعليم، والثقافة، والعرب والعروبة، والوطن، والوطنية، وهي كلمات تشعّ شعاعات تخطف البصر، وتنفض على النفس أصباغًا ذات أثر، وهي- على عمومها- سمات هذا العصر المتحلّل، ومواد الفصل الأول من قاموسه، يستعملها الأقوياء تعاليًا واجتهادًا، ويستعملها الضعفاء تعلّلًا وتقليدًا؛ ولما كانت معانيها عند الأولين مادية جافّة منقطعة الصلة بالروح، فمن الطبيعي أن ينقلها المقلّدون بجفافها وانقطاعها عن الروح.

بدت آثار هذه الغفلة من سنوات مضت، وبدأت ضعيفة خفية لم يدركها إلا قادة الجمعية الأيقاظ، ولكن السكوت عن الخطر هو أقوى أسباب استفحاله، لذلك وجب علينا أن نحارب هذا الخطر الجديد في بعض أبنائنا قبل أن يسري إلى جميعهم، وأن نكفكف من غلوائهم فيه بحزم لا تشموبه هوينا، وأن نأخذ بحجزهم عن التهوّر فيما يخالف مبدأ جمعيتهم، وأن نفهمهم أن المادة نافعة ولكن الروح التي تصرفها وتتصرف فيها أنفع، وأن العلم جميل، ولكنه مع الدين أجمل، وأن الثقافة كمال، ولكنها مع الفضيلة أكمل، وأن العروبة شرف، ولكنها زادت بالإسلام شرفًا على شرف، وأن الوطنية مكرمة، ولكن وطنية الإسلام اأكرم وميدانها أوسع، وصاحبها أعزّ نفرًا، وأقوى ناصرًا، وأكثر عديدًا.

وطاف طائف هذا الخطر بالشرق العربي، وزيّنه دعاة ينطوون للإسلام على حقد دفين، فهم ينتقمون منه بإفساد أجياله، والشرق العربي هو مسرح آمالنا، ومنتج طلّابنا وروّادنا، وسوق امتيارنا، فماذا يكون موقفنا منه، وهل نغض عن الشر لأنه نبت في الشرق، وان إخواننا المصلحين حرّاس الإسلام في الشرق يحاربون هذه المعاني العدوّة للإسلام حربًا لا هدنة فيها، فلننجدهم في حربها لئلا تطغى فتفسد عليهم وعلينا كل تدبير، وهبهم سكتوا عنه، أفنقلدهم في السكوت ونفتح الباب لأبنائنا أن يجنوا عواقب هذا السكوت؟ إن من أصول الفطرة أن نقلّد في الخير ولا نقلّد في الشر، ونأتمّ في الكمال ولا نأتم في النقص، وليس من كرامة الشرق علينا أن نقلّده في حرفين من اسمه.

...

جمعية العلماء حقيقة جلية، والسابقون الأولون من علماء الجمعية هم حرّاس هذه الحقيقة ووظيفتهم الأولى إبراز هذه الحقيقة إلى الوجود، والصورة المشخّصة لها هي إحياء

<<  <  ج: ص:  >  >>