للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذه أعذار أؤكد أنها واقعة وأعتقد أنها واهية، فالغفلة نقيصة وإن لم يبرأ منها أحد فلا تنهض عذرًا عن الحقوق الأدبية ذات الأثر النفسي العميق وبقية الأعذار تتفاوت في وجاهتها ووزنها وقبول العقول لها.

وإذا قصر إخوان الفضيل في جنبه أو قصرت الجزائر كلها، فما ذلك بالذي يضير الفضيل أو ينقص من قيمته شيئًا وإنما يضير المقصّرين، لأنهم يحرمون من ثمرات الاتصال الممتع به، وما هي بالقليلة. ففي الاتصال الكتابي وقوف على الحقائق ومثارات للبحث والسؤال والجواب والاستفتاء والعرض والكشف عن الغوامض، وفيه أبواب من القول تفتح أبوابًا، وأسباب تستتبع أسبابًّا، وما انتقلت العلوم من قطر إلى قطر إلا بذلك الأسلوب الذي كانوا يدعونه المراجعات، إذ كانت تغني كثيرًا عن المثافنة والتلقّي والتلقين.

وكثيرًا ما أطفأ الاتصال الكتابي نائرة وسفر بالرحمة بين قلبين وصدّ نفسًا عن هواها وجلا عن وجه رأي، وعن نفسي أتحدّث، فقد اكتنفتني- وأنا بالجزائر- في حدود سنة ١٩٤٩ أحوال ضاق بها صدري وصبري فهممت أن ألقي حبل الجمعية على غاربها وأهجر الإخوان والأعوان وأنقطع للتأليف، ووافق طفح النفس بالاغتمام أن كان بين يديّ كتاب من الفضيل يتقاضى جوابه فكتبت الجواب وأنا في تلك الحالة، وشرحت له في الأسطر الأخيرة من الرسالة بعض الأسباب التي أدّت بي إلى تلك الحالة وذكرت له ما عقدت عليه العزم من التخلّي لا على وجه المشورة بل على وجه الإخبار بشيء مفروغ منه، فجاءني جواب الأستاذ يثنيني عن تلك العزيمة بأسلوب من الرأي أخذ نفسي أخذة السحر ومسح منها تلك العزيمة المصمّمة مسح السوافي للرسوم، وبتّ وفي النفس هم يعتلج، فأصبحت بفعل تلك الرسالة أو بفضلها صاحي القلب من تلك الدواعي كلها، ولقد قرأت كثيرًا للأدباء القدماء في باب سل السخائم ونقض العزائم، وفيه العجب العاجب من الافتنان في ضروب الاقتدار على ثني أعنّة النفس وصرف أهوائها من جو إلى جو بسحر البيان، ومن ألطف ما قرأت تأثيرًا وأدقّه تعبيرًا قول أديب أندلسي يثني عزيمة عالم عن الرحلة إلى الشرق:

أشمس الغرب حق ما سمعنا ... بأنك قد سئمت من الإقامه

وأنك قد عزمت على رحيل ... بحق الله لا تقم القيامه

ونفثة السحر والتأثير أنه هيّأ لمراده بقوله: "أشمس الغرب" ثم ختم بقوله: "لا تقم القيامة" إشارة إلى أن طلوع الشمس من مغربها من علامات قيام الساعة.

قرأت كثيرًا من هذا النوع ومثّلت نفسي معنيًا به فما وجدت له من التأثير ما وجدت لرسالة الفضيل إلي، وليس مرجع التأثير إلى البلاغة التي يتأثر بها أمثالي بل قوة الرأي وسداد الحجة، ولا أذكر أن كلمة ثنت عزيمتي عن يشيء هممت به إلا كلمة الفضيل هذه، وكلمة

<<  <  ج: ص:  >  >>