للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولكنني أعد من دواعي الكمال، السعي في التكميل، ومن أشنع النقص ادّعاء الكمال، ومن أراد أن يعرف نفسه فليضعها أمام كامل، فكأنما يقابل منه مرآة مجلوة، وقد كنت أحفظ اللزوميات ثم أنسيتها وبقي في نفسي شيء من الاعتزاز بذلك بعد النسيان، مثل اعتزاز الفقير بغناه الزائل، فلما لقيت من حفظ اللزوميات في مثل سنّي ولم ينسها احتقرت نفسي وبرئت من الاعتزاز الزائف.

درست أبا الأعلى المودودي وسليمان الندوي وعبد الغفار خان من باكستان وكتبت عنهم مذكّرات ودرست جماعة من العلماء العاملين في العراق والشام ومصر من الأحياء وممن تأخر موتهم، ودرست أمين الحسيني وحسن البنا والفضيل الورتلاني عيانًا في الحيين وشبه عيان في الميت لاستفاضة شهرته في جميع الأوطان التي زرتها ولخلود الأهرامات التي بناها من النفوس لا من الحجر، ودرست بعض رجال الثورات المادية، وكل ما كتبته من مذكرات عن هذه الدراسات ستنتفع به الأجيال يوم ينشر إن شاء الله، ومفتاح دراساتي هو عمل الرجل وغايته وجهاده، وتفسير العمل عندي ما يبنى على عقيدة لئلا يتناقض، وما تدفعه إرادة لئلا يتراجع، وما يحثّه جهاد لئلا يقف، وما يصحبه تجرّد لئلا يتّهم، وما ينتشر لئلا يضيق فيضيع، وما تكون غايته الخير لئلا يكون فسادًا في الأرض.

وبهذا المقياس درست الأعمال والعاملين ومنهم الورتلاني، ولم يزد الورتلاني عليهم بسابق معرفتي له ولا بكونه خريج المدرسة الإصلاحية التي شاركت في بنائها ولا بالعشرة الملازمة بيننا، فقد تجردت في دراستى له عن كل ما أعرفه عنه من أول النشأة إلى الآن، حتى كأن الفضيل الذي أدرسه غير الفضيل الذي أعرفه، وقد كانت هذه الدراسة وهو في المرحلة الوسطى من عمره وعمله، وهي مرحلة يغلب أن تثبت ولا تحول، وتتمادى ولا تتغيّر، ومن الخطإ أن يبنى تاريخ الرجال على الحقبة الأولى من حياتهم كالذين أرّخوا لحياة ابن خلدون العلمية بما قبل تأليفه للمقدمة، وللرجال مراحل يطولون فيها ويقصرون ويزيدون وينقصون، لذلك كان أصدق تواريخ الرجال ما يكتبه الدارسون المتقصون عنهم بعد موتهم لأن الموت ختم على صحائف الأحياء.

والدراسة المستوعبة للفضيل ليس محلها الجرائد المعدودة الأيام والمقالات المعدودة السطور، وإنما ميدانها الكتب والمذكرات، ولكنني رأيت من الإحسان إلى الجزائر والبر بها بل من حقوقها علي أن أدفع عنها وصمة التقصير بالاعتراف به، والاعتراف بالحق أم الفضائل، وأن أحمل عنها تبعة التقصير، وأن أمسح بهذا الحمل عنها وقع العتاب من رجل تحبّه ويحبّها وهو الأستاذ الجليل محمد عبد اللطيف دراز، وقد تلمحت في ملاحظاته لحظة علوية ومن يدري فلعلّها هي التي حرّكتني إلى أداء واجب مزدوج فيه بر وفيه وفاء وفيه إحسان، وفيه خير- إن شاء الله- لقومي كلهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>