للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيه، وما لهؤلاء القوم المشنعين على الإسلام لا يمنعون تجارة (الرقيق الأبيض) المتفشية بينهم، والمسجّلة عليهم وعلى حضارتهم عارًا لا يمحى؟ وما بالهم يرون القذاة في أعين غيرهم، ولا يرون الخشبة المركوزة في أعينهم؟ وما بال إنسانيتهم انحصرت في الإشفاق على عشرات أو مئات أو آلاف من العبيد يملكهم المسلمون بإحسان، ولم تتسع رحمتهم وإشفاقهم لمئات الملايين من الشعوب التي استعبدوها في أفريقيا وآسيا، فأذلوا رقابهم، ومسخوا معنوياتهم، وجرّدوها من كل أسباب الحياة؟

ثم ان لنا موقفًا نصفّي فيه الحساب مع هؤلاء الكتّاب الناعقين، ومن وراءهم من الحكومات المتفقة على إبطال الاسترقاق، ونردّ عليهم دعواهم وزعمهم أن ذلك القانون هو أشرف عمل إنساني تمّ على أيديهم وسبقوا إليه كل من مضى ومن حضر من الدول والأديان، وأنه هو الغرة اللائحة في جبين هذه الحضارة، والصفحة المشرقة في تاريخها، إلى آخر ما يفيضونه من النعوت على هذه (العملية).

نقول لهم أولًا: أمن الإنسانية ما تفعله أمريكا مع الزنوج إلى اليوم، وما تفعله جنوب أفريقيا مع الزنوج فيها؟

ونقول لهم ثانيًا: أمن الإنسانية والتحرير، استعماركم لأفريقيا وآسيا؟ وما فعلتموه من الفضائح في فتحهما، وما تفعلونه من الموبقات إلى اليوم في استعباد أهلها؟

قد يكون كلامكم في إلغاء الاسترقاق صحيحًا ومعقولًا عند الناس لو لم تقرنوه بجريمة الاستعمار في آن واحد، فلم تزيدوا على أن سفهتم أنفسكم، ونقضتم قولكم بفعلكم، وصيّرتم تلك الغرة المزعومة، عرّة معلومة، من الذي يصدقكم في تحرير الآلاف من العبيد، بعد أن استعبدتم مكانهم مئات الملايين؟ فكأنكم ما وضعتم ذلك القانون إلا تلهية للعالم، وتغطية عن الجريمة التي ارتكبتموها، وكأنكم ما رضيتم للشعوب الضعيفة أن تسترق أفرادًا، فألغيتم ذلك النوع الفردي، وأبدلتموه بالاسترقاق الجماعي (وبالجملة) على لغة التجّار.

فكان حقًا عليكم- لولا النفاق- أن تزيدوا كلمة في عنوان ذلك القانون فيصير (إلغاء الاسترقاق الفردي) ولو فعلتم لكنتم صادقين في الواقع، وإن كذبتم على الحقيقة والتاريخ، والكذب في الشر يصيّره شرّين.

إن هؤلاء القوم لم يزيدوا على أن حرّروا العبد زعمًا، واستعبدوا الأحرار فعلًا، ثم لجوا في الزعم سترًا للشناعة وتغطية عن الشر، وإلهاء للأغرار، وهيهات أن تغطى الشمس بالغرابيل. وإذا كان إلغاء الرقيق عملًا إنسانيًا، فاستعباد الأحرار بماذا يسمّى؟ وأنهار الدماء التي سالت بالأمس القريب في الهند الصينية وفي كوريا، والتي تسيل اليوم في شمال أفريقيا وشرقها ... تسيل، في أي سبيل؟

<<  <  ج: ص:  >  >>