والتبيين والبخلاء والحيوان للجاحظ والأغاني للأصفهاني والكامل للمبرد وحثّني على قراءة مقدمة ابن خلدون والعقد الفريد لابن عبد ربّه وبهجة المجالس لابن عبد البر، فقرأت عليه بعضها في حياته وقرأت جميع ما أوصاني به بعد وفاته.
ازداد شغفي بالقراءة من ذلك الحين، وقد أصبحت في درجة من الفهم والإدراك أفرّق فيها بين الغث من الكتب والسمين، وانصرفت إلى شعراء الشرق البارزين فقرأت المئات من دواوينهم ودرستها وقرأت كثيرًا من الكتب المؤلفة في موضوع الأدب كالعمدة لابن رشيق وكتب العسكري والجرجاني والآمدي وقدامة بن جعفر.
كررت قراءة بعض الكتب التي قرأتها مرات ودرستها، فما أبقى كتاب فيها في نفسي أثرًا يحملني على معاودة قراءته في كل سنة أو في كل فسحة تأتي من وقتي ولا وجدت في نفسي لقراءته ما يجده الجائع لالتهام الطعام إلا بضعة وعشرين من الكتب ودواوين الشعر فإنها استولت على شعوري، وأصبحت جزءًا من إحساسي، وبلغ شغفي بقراءتها مبلغ الافتتان.
ولنقتصر هنا على كتب الأدب من نظم ونثر فإن السرد لجميع الكتب ذات التأثير في نفسي يطول.
من الشعر الذي كان له الأثر الذي لا ينصل صبغه من نفسي شعر المتنبي لما فيه من فحولة وقوة أسر، وسداد حكمة وسيرورة أمثال، وإصابة أهداف، وتخطيط لدساتير البطولة، وتحديد لمواقع الكرم وتلقين لمعاني الذياد والحفاظ وتمثيل لبعد الهمم، وان المتنبى في بعض ما يصف من الذين يقولون ما لا يفعلون.
وشعر أبي فراس الحمداني لما يشيع في جوانبه من الانتخاء بالعروبة، والتنويه بشعائر العرب وأخلاقهم ومآثرهم وأمجادهم، ولأنه أصدق من المتنبي في كثير مما يدّعيه المتنبي.
وشعر البحتري لحلاوته وانسياغه في اللهوات، وسلامته من المعاضلة والتعقيد وجميع العيوب التي وصم بها أستاذه أبو تمّام.
وشعر الشريف الرضي لرقّته وانطباعه وبراعته في الوصف وصدقه في الفخر حين يفخر بأصوله الغر الميامين ... والفخر بأولئك الأصول هو الينبوع الثر من ينابيع شعره.
وشعر المعري في اللزوميات لدقته في وصف الدخائل النفسية، وتدسّسه إلى المكامن الروحية وتغلغله إلى مدب السرائر الخفية وسعة رحمته بالحيوان، وتنويهه بالفضائل والمكارم والكمالات وتمجيده للعقل الذي هو ميزان لا يخيس ومعيار لا يخس.
وشعر ابن خميس التلمساني لبراعته المدهشة في المزاوجة بين المعاني الحضرية الرقيقة، وبين التراكيب البدوية الجزلة، حتى كأنه بقية من طبقة عدي بن زيد العبادي.