للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يضيعها الورّاث، كما أضاعت ما قبلها الأحداث، ثم حرص شديد- ولا حرص الفقير الحانق، في المحل الخانق، على الفلس والدانق- على وصل ما انقطع وربط ما انتشر من هذا التراث النفيس الذي كان أهله عونًا مع الزمان عليه، فكان من آثار هذه الخلال فيه أن رأيناه يطوف الآفاق وينقّب المكاتب للحصول على كتاب عربي غفل الزمان عن نسخة يتيمة منه ليولد منها ثانية يردّ بها غربة الكتاب إلى تأهيل وغرابته إلى تأنيس ولبسه إلى توضيح، وله في هذا الباب المناقب الكبر التي عجز عن تحصيلها غيره، فهو يشبه محمد بن اسماعيل البخاري حين تفرقت الأحاديث في الأمصار فرحل إليها كلها، ليجمع منها ما شت، ويصل من حبالها ما انبت.

وهذا الفن الذي أصبح أخونا الميمني إمامًا فيه وعلَمًا من أعلامه فن قديم، وضع أصوله الأولى أسلافنا فيما كانوا يحرصون عليه من معارضة نسخهم من الكتاب بنسخته الأصلية، وبما كانوا يلتزمونه من كتابة الساعات وإن كثرت على نسخهم مع شهادة مؤلف الكتاب بخطه أو بخط مَن يرويه عنه مباشرة، ومن دقّتهم في باب المعارضة أنهم يكتبون عن الكلمة التي انتهى بها المجلس هذه الجملة (بلغ مقابلة أو سماعًا)، وكانوا لا يجيزون الأخذ من كتاب ليس عليه هذه الشهادات، كما كانوا يرجعون في الخلاف إلى الأصول القديمة، وحكاية المعرّي مع شيوخ بغداد معروفة، حينما روى كلمة يوم بالياء وعارضوه بروايتها بالباء واستظهروا بنسخ جديدة من كتاب للسكيت أو لغيره، فقال لهم هذه نسخ جديدة رواها أشياخكم على الغلط فارجعوا بنا إلى النسخ القديمة بدار العلم فوجدوها كما قال. وهذا أصل له فروع منها عنايتهم بتصحيح التصحيف وتأليفهم المؤلّفات الخاصة فيه، ولو أن باحثًا تتبّع هذه الأصول واستقصاها في كتاب لكان ذلك إسكاتًا لهؤلاء المتبجّحين من الغربيين الذين يزعمون أن هذا الفن الذي يطلقون عليه (فن خدمة النصوص) هو من مبتكراتهم ومن خصائص حضارتهم العلمية الحاضرة، وأنا فما انطوت نفسي على ثقة بهؤلاء المستشرقين حين يتكلمون عن كتبنا ولغتنا وآثار أسلافنا، ولعلنا نتفق جميعًا على عدم الثقة بهم حين يحكمون آراءهم في ديننا وتاريخنا وآدابنا وشؤوننا الاجتماعية، وإن كنت لا أنكر أن لبعضهم جهودًا مشكورة في إحياء بعض كتبنا، وهذا أيضًا ليس له كبير شأن، فإن القوم متعاونون كل شيء ميسر لهم، وكل شيء يطلبونه من المراجع يجدونه منهم على طرف الثمام، ومن ورائهم جمعيات ومجامع تمدّ وتسعف، ولو كنا نجد عشر العون الذي يجدونه وعشر التسهيلات التي تهيّأ لهم من المال والمكاتب الزاخرة الميسرة الأسباب، لصنعنا العجائب في هذا الباب.

ومن التحذلق الغالب على معظمهم أنهم يعدون من أمانة النقل إبقاء الخطأ الصريح على حاله، فكلمة "غير" مثلًا لا تحتمل غير معناها في مقامات الاستثناء مثل استعمالها في جملة:

<<  <  ج: ص:  >  >>