للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ}، وقد يسهو ناسخ فيترك الغين بلا نقط، فيجدها جرمقاني من هؤلاء الجرامقة فيكتب في التعليق عليها (في نسخة أخرى: عير)، ويعدّ هذا من الفنّ، ولا يكون هذا من الفن إلّا إذا كان الخطأ من الفن وكان الجهل من الفن، وما أُتي هؤلاء إلا من سطحيتهم في العربية وقلّة محصولهم منها، أما العربي فلا يحكم على كلمة (عير) في مثالنا إلّا أنها خطأ يصحّح، لا احتمال يضعف أو يرجح.

وعلى ذكر حظ هؤلاء الجرامقة من العربية أقول إنني تقصّيت أخبار الكثير من مشهوريهم فلم أجد واحدًا منهم برع في العربية كما يبرع العربي في لغات الغرب نطقًا وكتابة، بل جميعهم لُكْنُ الألسنة والأقلام، وإنما ينْبُه شأنهم عند أقوامهم وحكوماتهم لأنّ لهم فيهم مآرب أخرى، ولا أعتقد أن مستشرقًا غربيًا ينبغ في العربية ولو ركب الصعب، وشرب في القعب، وادّعى الولاء في بني كعب.

وقد وُجد في عصرنا هذا جماعةٌ من أبناء العرب والإسلام اشتغلوا بهذا الفن وكانت لهم فيه مقامات محمودة، ونشروا كتبًا لأسلافنا على طريقة العرض والمقابلة بين النسخ والمراجع، فاستولى بعضهم على الأمد الأقصى من الدقّة والضبط، ولكن هذه الطبقة قليلة العدد، وسدّد بعضهم في الإحسان وقارب، وتطفلتْ جماعات على هذه المائدة فلم يأتوا بسديد ولا بمفيد، ولم يزيدوا على أن زاحموا التجّار الجاهلين، ونراهم يقلّدون سخفاء المستشرقين في طريقة (غير وعير)، ويسترون نقصهم بهذا التقليد الذي لا يصلح مواتًا من الكتب، ولا يحصي أمواتًا من المؤلفين. ونشر الكتب كنشر الأموات، يجب أن يكون إشاعة للحياة في جميع أجزاء الكتاب، ومن المحزن أن الظروف وفساد الأخلاق ساعدت على ظهور طائفة جمعتْ ضيقَ الذرع إلى جفاف الضرع، ولم يكتف أحدهم بطبع الكتاب حتى يعلق عليه افتتانًا بهذا اللقب الجديد الذي يفيده قولهم: (نشره فلان وعلّق حواشيه)، وقرأنا فوجدنا التعليق، أصعب على القارئ المغرور من التحليق، ووجدناهم في تلك الحواشي، أشبه بحالة الطواشي، ذكر ولا آلة، وعائل وهم عالة، ومن عجيب أمر بعضهم أنهم يبنون آراءهم في الحق على أسس من الباطل، ويبنون استنتاجات سخيفة على تناسب الألفاظ وتجانسها في الحروف والأوزان، ولو أن نسّابة زعم أن الأقباط من الأسباط لِتَشابُهِ اللفظين، وان ذارعين من نصر بن قعين لِتجانس الفقرتين، لما كان أسخف مما تبض به هذه الأذهان العقيمة القاحلة، ومن غريب أمر بعضهم أنهم يخوضون في تعليقاتهم في الأنساب- أنساب الأشخاص وأنساب الآراء وأنساب الأبيات- فيقعون في تخليط يلحق البيتَ بغير قائله، والابن بغير ناجله، كل ذلك لأنهم أتوا هذا الأمر من غير استعداد له ولا استكمال لأدواته، ومن أيسر أدواته معرفة المظان والصبر على مكاره التنقيب والبحث عنها، ونراهم حين يرمون بنسخ الكتاب الذي ينشرونه إلى السوق يروّجون له بالدعاية والإعلان، وأنه بتحقيق فلان،

<<  <  ج: ص:  >  >>