هكذا بكسر الراء، وينقلها لأهل عصره بشهادة السماع المتصل المنصوص فيه على كسر الراء، فيصبحون كلّهم وكأنّهم سمعوها من فم سحيم، كما نرى في أسانيد الحديث واللغة والشعر والخبر عند القدماء، فكانوا يحافظون في الرواية حتى على الخطأ ثم يصحّحونه، كما رووا عن ابن دريد إنشاده لبيت:
أنكحها فقدها الأراقم مِن جنـ ... ـبِ وكان الحباء من أدمِ
بالخاء المعجمة، ثم صحّحوا له هذا الخطأ، وانه الحباء بالحاء المهملة. وأعتقد أن أخي الأستاذ يوافقني على أن هذه السلسلة انقطعت من قرون ولا طمع لنا في معرفة ما نطق به سحيم في بيته: هل هو فتح الراء أو كسرها؟ فلم يبق لنا- بعد فقدان الرواية- في ترجيح أحد المعنيين المحتملين إلّا تحكيم قوانين البلاغة وأساليبها، ومقاصد البلغاء ومنازلهم في الفصاحة والبلاغة، فهلم نتبيّن منزلة سحيم فيهما من غير التفات إلى الموضع الذي وضعه علماء الطبقات فيه، ثم هلم نوازن بين الكلمتين المتماثلتين، وأيتهما أقرب إلى قصد الشاعر، وأيتهما تؤدّي غرضه كاملًا، وأيتهما يتساوق معناها مع الفخر، وأيتهما أشبه بمنزله في الفصاحة والبلاغة، فإذا اتفقنا على أن سحيمًا لا يزل عن درجة البلاغة ولا يدفع عن منزلة البلغاء في عصره، فالورَق ألْيقُ بقصده وأشبه بمعرِض كلامه وأنسب لمنزلته وأكمل أداء لغرضه، لأن الورِق بالكسر مال خاص وليس بالثمين ولا مما يتسلح به المتفاخرون في مقامات الفخر، والورَق بالفتح هو المال الشامل للفضة وغيرها، وهو يريد أن أشعاره تقوم له مقام الأصل الذي فاته، ومقام المال الذي حُرمه، فإذا فاخره الناس بالأصول الجليلة والأموال المتنوعة فاخرهم بشعره ففخرهم، لا مقام مال مخصوص محتقر، لا يفاخر به الناس، ولو نزلتْ به همته دون بلاغته لذكر الذهب لأنه أغلى وأثمن عند جميع الناس، ولم يعجزه أن يأتي في روي البيت الثاني بالباء، والشعراء بطبيعة الشعر فيهم يؤثرون المبالغة والتسامي في مقامات الفخر لا التنزل والإسفاف، فكيف نرضى لسحيم وهو مَن هو في البلاغة وعلو الهمة أن يحبس قصده وغرضه عند هذا المعنى القاصر المنحط، وأين الفضّة من الذهب؟ وأين هما من حمر النعم؟ وأين هما من النجائب والجنائب؟ إنكم يا سيدي الفاضل بتصميمكم على كسر الراء وضعتم صاحبكم سحيمًا- الذي خدمتموه بطبع ديوانه- في منزلة من سقوط الهمة لا يحسد عليها، ورجعتم به إلى طينته التي يريد أن ينسلخ منها، وصورتموه للناس رجلًا لا يعرف من المال غير أحط أنواعه وهو الفضة، ولا تسمو همته حتى في التخيلات الشعرية إلى أكثر من الفضّة التي كان يباع بها ويشترى، فهو عبد في الخيال كما هو عبد في الحقيقة، وأية قيمة لشعر قوّمه صاحبه بالفضة وقنع بهذه القيمة حتى في أوسع مجالات الفخر؟ إذن فهو شعرٌ عبدٌ لأنه شعرُ عبدٍ، فإذا أتيتم له هذا القصد فإن النقاد يحملونه على المبالغة أيضًا كما هو طبع الشعر والشعراء، وانظر- يا رعاك الله- ماذا